لا توجد سيرة موضوعية لأحد، لا للذات في السيرة الذاتية، ولا للآخر في كتب السير والتراجم. السيرة رؤية ومنظور. هي إعادة بناء التاريخ طبقاً للإحساسات الحالية، ومن خلال وسائل المعرفة المتاحة، بل إن النصوص التاريخية القديمة كُتبت أيضاً من منظور المؤرخ، وبوسائل إدراكه وحسب اهتماماته، وربما ولاءاته وانتماءاته الفكرية والمذهبية والسياسية.
فلا يوجد ضمان مطلق بين الرواية والواقع كما نبّه ابن خلدون في مقدمة كتابه «المقدمة» على أخطاء المؤرخين، وضرورة تجاوز الرواية إلى المشاهدة، والنص إلى الواقع. لا يوجد تاريخ بلا تدوين. والتدوين يصنع التاريخ ويصوره، ومقياس صدقه ليس التطابق مع الواقع، بل التطابق مع النفس كما هو الحال في العمل الأدبي. التاريخ رواية، والرواية ليست فقط خبراً، بل هي عمل أدبي كذلك. وكل خبر هو عمل روائي بالضرورة، بل إن الرواية الصوفية الذاتية تقص أخباراً لا شأن لها بالأحداث، وتصور واقعاً خيالياً قد يكون هو الواقع الفعلي، في حين أن الواقع الحسي مجرد وهم مجرد. وكما لاحظ هيجل من قبل في «ظاهريات الروح»، فإن الحس الساذج المباشر في الزمان والمكان هو المجرد، أول درجة من تطور الروح، وأن التصور هو العياني، وهو آخر مرحلة من تطور الروح. التدوين إدراك حسي، وفهم عقلي، وتأويل نفسي، وقصد إنساني. ليس التدوين مجرد نص، بل هناك عدد من العمليات الحسية والذهنية والنفسية والقصدية والوجودية.. وراء النص.
الذاتية هي الموضوعية، ولكن على نحو اسمي. والحقيقة ليست فقط ذلك المفهوم المنطقي القديم، أي تطابق العقل مع نفسه، أو المفهوم العلمي الحديث، أي تطابق العقل مع الواقع.. بل الحقيقة هي تطابق العقل مع النفس، والفكرة مع التجربة الحية. ولمزيد من الاطمئنان يتضاعف التطابق بين التجربة الفردية، وتجربة الآخرين لعدم الوقوع في الذاتية بمعنى النسبية. فالحقيقة المشتركة من خلال العلاقات بين الذوات هي الضامن للموضوعية التقليدية والبديل عنها. الموضوعية الحسية الشيئية الساذجة افتراض عقلي، ووهم معرفي، واغتراب عن النفس، ووقوع في الشيئية، وتضحية بالذات في سبيل العالم.. «وماذا يكسب الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه؟». وقديماً قال سقراط «اعرف نفسك بنفسك».
وهو القول الذي أعاده أوغسطين: «في نفسك أيها الإنسان تكمن الحقيقة».. ثم تمت صياغته في «الكوجيتو» الديكارتي، و«الأنا أفكر» الكانطي، و«الأنا الحر» عند فشته، و«الأنا موجود» عند سارتر.. وكل ذلك أكده القرآن الكريم في قوله تعالى: «وفي أنفسكم أفلا تبصرون».
وقد وقع الغرب في وهم الموضوعية، وظهر ذلك في النزعة الوضعية والمدرسة التاريخية.. من أجل التخلص من الأوهام السابقة المترسبة في الوعي المعرفي الأوروبي من سلطة القدماء، يونان مثل أرسطو وبطليموس، أو مسيحيين مثل رجال الدين وعقائد الكنيسة. وفرّقوا بين «حكم الواقع» و«حكم القيمة»، الأول عام علمي، والثاني خاص وقتي نسبي. مع أن الواقع قيمة، والقيمة واقع. إن الله يرسل الوحي على مراحل في التاريخ، ويضعه لمصلحة الإنسان: «كل يوم هو في شأن». وليس لأحد القول الفصل في أي شيء. ولا يوجد رأي واحد في أي موضوع. هناك الرؤية والمنظور.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة