يخطئ من يتصور أن دلالات الأزمة السياسية الراهنة في تونس محدودة بالشأن التونسي، ذلك أن لها أبعاداً عربية واضحة، وأقصد بذلك أنها جزء من أزمة السعي في بعض الدول العربية إلى النظام السياسي الأمثل عقب الانتفاضات الشعبية التي بدأت في مطلع العقد الثاني من هذا القرن، فقد كان المطلب الديمقراطي أساسياً في البلدان التي شهدت تلك الانتفاضات بسبب خبرتها مع نظمها الحاكمة التي انتفضت ضدها، وبسبب ذات الخبرة ظهر نزوع إلى البعد عن النظام الرئاسي والأخذ قدر المستطاع بصيغة النظام البرلماني. مع أن النظام الرئاسي بريء من ممارسات النظم التي انتفضت عليها شعوبها، فنموذجه الأصيل مُمَثل في النظام السياسي الأميركي الذي يتسم بتوازن تام بين السلطات لا يختل إلا بإرادة شعبية، كما يحدث عندما تكون الأغلبية في الكونجرس الأميركي من نفس حزب الرئيس.
وعلى ما يبدو كان النظام التونسي في أعقاب «ثورة الياسمين» تجسيداً لهذا النزوع الذي دفعت تونس ثمنه باهظاً في سلسلة الأزمات بين مؤسسات الدولة سواء بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أو حتى داخل السلطة التنفيذية ذاتها بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهو ما أتاح للسلطة التشريعية مساحة أكبر للمناورة داخل هذا الخلاف بالانحياز غير مرة لرئيس الوزراء ضد رئيس الجمهورية، ومما زاد الطين بلة أن الأغلبية داخل السلطة التشريعية تنتمي لحركة النهضة -الفرع التونسي لـ«الإخوان المسلمين»- وهذا ينقلنا إلى الدلالة العربية الثانية لما يجري في تونس.
فقد شهد الوطن العربي في أعقاب الانتفاضات الشعبية التي عرفها منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن صعوداً سياسياً لتيار ما يُسمى زوراً بالإسلام السياسي وتحديداً لجماعة «الإخوان المسلمين»، فبرزت كقوة سياسية أولى في تونس، وهيمنت على السلطتين التشريعية والتنفيذية في مصر، وقامت بأقصى ما في وسعها من تخريب في باقي بلدان الانتفاضات الشعبية في ليبيا وسوريا واليمن، وكان هذا الصعود راجعاً لممارساتها عبر ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن في مناهضة النظم القائمة في الدول العربية، وكذلك للفوضى التي تلت تلك الانتفاضات، خاصة في ظل الضعف البين للبنى الحزبية العربية، ناهيك عن الدعم الخارجي، وقبل البعض بهذا التطور على أساس أن صناديق الانتخاب قد فرضته رغم أن الكل يعرف الظروف التي تحد من الدلالة الديمقراطية لما تأتي به هذه الصناديق.
جماعة «الإخوان المسلمين» أكدت تاريخها الطويل في تبنيها العنف، فلم تكشف ممارساتها إلا عن استمرار هذا النهج كأداة للحركة السياسية وللفاشية كنمط للحكم يقوم على استبعاد الآخرين ما استطاعت لذلك سبيلاً، ناهيك عن إخفاقها المريع في إدارة الدولة، الأمر الذي أدى في الحالة المصرية إلى نفاد صبر الشعب المصري بعد سنة واحدة من انفرادها بالحكم والإطاحة بها. وفي الحالة التونسية وربما بسبب ما اتسمت به «حركة النهضة» من مراوغة سياسية بقيت في المسرح السياسي، لكن قوتها تراجعت بالإضافة إلى تكرار ذات الممارسات التي عودتنا عليها الجماعة، ولا يقل أهمية عن ذلك إخفاق الدولة التونسية في ظل الصيغة الراهنة لنظام الحكم وتشرذم البنية الحزبية في حل المشكلتين الاقتصادية والصحية ومحاربة الفساد المستشري بلا حدود.
وفي هذه الظروف بادر الرئيس التونسي بما اتخذه من إجراءات لحماية الدولة التونسية بموجب المادة 80 من الدستور، والواضح أنها تكتسب شرعية سياسية من خلال التأييد الشعبي الواضح لها، ويفرض هذا على الرئيس ضرورة تدعيم هذه الإجراءات بخارطة طريق لا تدع مجالاً لشك في شرعيتها.