ازدهرت المشاريع العربية المعاصرة في مصر والشام والمغرب. كانت مصر والشام منبع النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع، وازدهر المفكرون والكتاب والأدباء والمصلحون الشوام في مصر. وعاش رواد النهضة العربية بتياراتها الثلاثة في مصر، الأفغاني رائد الإصلاح الديني، والطهطاوي رائد الفكر الليبرالي، وشبلي شميل رائد الفكر العلمي العلماني. فكان من الطبيعي أن تتولد بعض المشاريع العربية المعاصرة في مصر بعد العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين، وبعد الفترة القومية في النصف الثاني منه، وتتبلور بعد هزيمة يونيو 1967.
كان مسيحيو الشام على دراية بالتيارات والمذاهب الفكرية والعلمية والسياسية في الغرب كما كان القدماء على علم بثقافة اليونان. وكانت مصر أيضاً بفضل عصر الترجمة الثاني في عصر محمد علي نموذجاً لبناء الدولة الحديثة. وقد اتجه الكثير من المفكرين المعاصرين إلى إعادة بناء الموضوع في إطار الذات من منظور آخر، ومن موقع مخالف، وربما في زمن آخر. والمتن والشرح واجهتان لعملة واحدة، والمقروء والقراءة فعلان متكاملان. فلولا نقد أرسطو لأفلاطون ما كان أرسطو ولا أفلاطون.
ولولا نقد الكانطيين لكانط لمات كانط ولما ظهر الكانطيون. ولولا نقد اليسار الهيجلي لهيجل لما كان الهيجليون الشبان ولمات هيجل. ولولا تطبيق فلاسفة الوجود المنهج الظاهرياتي لهوسرل ورفع القوسين وإصدار الأحكام على الوجود، لمات هوسرل ولما ازدهر فلاسفة الوجود. وهذا هو منهج القراءة الذي استعمله التوسير في «قراءة رأس المال»، قراءة على قراءة ماركس للاقتصاد التقليدي عند ريكاردو وآدم سميث من أجل اكتشاف بنية حاول النصان الأول والثاني العثور عليها.
«القراءة» هي رؤية مشروع في مرآة مشروع آخر. لا خطأ فيها ولا صواب، بل انعكاس صورتين في مرآة مزدوجة. الغرض من الصورة ليس معرفة الحقيقة الخارجية، الموضوع نفسه، بل مجرد تعدد الصور بتعدد المرايا من أجل إثارة الذهن والحث على التأمل والتفكير. لا يوجد في القراءة خطأ وصواب، بل تتعدد الرؤى والمواقف التي من خلالها تتم القراءة. ولا توجد قراءة واحدة مطلقة تجّب غيرها من القراءات، بل هناك عدة قراءات متساوية فيما بينها بتعدد المرايا والزوايا.
ولا يوجد فهم مطلق لنص ولا شرح واحد لمتن حتى عند صاحب النص أو المتن، عند المقروء أو القارئ، بل تتعدد قراءات النص عند صاحب النص لنصه، وعند صاحب الشرح لشرحه. القراءة إكمال مشترك وعمل جماعي للطرفين المتحاورين أو أكثر حتى تتعدد الصور في عدة مرايا متعددة الأشكال للتساؤل والمراجعة الجماعية، والعودة إلى البداية، المشاريع العربية المعاصرة باعتبارها مقاصد حضارية. القراءة نوع من نقل الموضوع إلى الذات. فالموضوع لا يتحدث عن نفسه إلا من خلال الذات. وكل ذات إنما تحول العالم إلى صورة فيها.
فكل شعور هو شعور بشيء. لذلك يصعب في علم القراءة الحديث عن الموضوع دون تحليل الذات أو الحديث عن الذات دون تحليل الموضوع. وما يهم في القراءة هو البنية والقصد. البنية لمعرفة البناء والقصد لمعرفة الغاية منه. أما التفاصيل فهي مواد البناء. وهي أقل أهمية من الرسم الهندسي ومن القصد في الاستخدام. ليست القراءة نقداً؛ أي بيان المثالب والعيوب وأوجه النقص.
النقد بهذا المعنى استبعاد للنص، وكتابة نص بديل. في هذا النوع من النقد يضع الناقد نفسه بديلاً عن المؤلف، ويكتب النص بدلاً عنه. يزيح المؤلف ونصه ويكتب هو نصاً جديداً. والنص الأول ما هو إلا مناسبة لإظهار النص الجديد. تنقلب الوسيلة غاية، والغاية وسيلة. ليست القراءة مقارنة على التجاور بين مشروعين فكريين، أحدهما بجوار الآخر وكأنهما كرتان متلاصقتان.
مقارنة خارجية دون أن تدخل في بنية كل مشروع وتكوينه، وأهدافه ومقاصده، وأسلوبه ومصطلحاته، كبضاعتين في سوق المنافسة لاجتذاب أكبر عدد ممكن من الشارين. القراءة هي رؤية كل مشروع من منظور المشروع الآخر على التوالي، المرآة المزدوجة التي تكشف صورة كل مشروع في ذهن المشروع الآخر.
تكشّف أبعاد الموضوع، وتعدد الرؤى. هي رسم صورة للأخ في صدر أخيه، فنحن نعيش في عالم من الصور الذهنية وليس الوقائع المرئية. وكل قراءة تأويل؛ أي وضع للموضوع في رؤية للذات من أجل اكتشاف أبعاد جديدة من خلال الحوار بين الذوات وتطوير المشروعين معاً، المقروء والقارئ، دون إصدار حكم إيجابي أو سلبي، للاتفاق أو للاختلاف، للتصويب أو للتخطئة، للاستحسان أو للاستهجان. وتتجاوز القراءة المماحكات اللفظية والمعلومات التاريخية وتفاصيل النصوص والتعالم المزدوج إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة والمواقف الفكرية. هي قراءة الأستاذ وليس تصحيح التلميذ، قراءة المفكر المسؤول وليست قراءة المراهق المبتدئ.
* أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة