حين صدح صوت مسجل بالطائرة الذاهبة بي إلى «جدة» منبهاً الركاب أنهم قد دخلوا إلى رحاب الأماكن المقدسة، ويمكن لمن أراد منهم أن يلبي، لا سيما أولئك الذاهبين لأداء العمرة. لم أكن من بينهم، لكن العزم على الانضمام إليهم انعقد في رأسي ونفسي منذ أن تلقيت دعوة للمشاركة في فعاليات «سوق عكاظ».
كنت جالساً في مقعدي أنصت إلى أغنية قطعها الإعلان عن دخول المجال الجوي لمكة، فانهمرت دموعي تغسل أخطائي وخطى قطعتها في سبيل كل ما يشقي ويضني في الآخرة. أطفأت الأغنية وهامت روحي في فضاء أراه من النافذة ممتداً إلى حيث تسبح فيه النجوم، هابطاً إلى حيث يهرول الناس إلى دنياهم، حتى يبلغوها، ثم يتركونها خلفهم بغتة.
حين وصلنا مطار الملك عبد العزيز الدولي في «جدة»، كان السؤال دوماً ليس عن مدينة «الطائف» إنما عن «مكة». وفي الطريق إلى الفندق كانت تتوالى الإشارات التي تذكر فيها اسم المدينة المتربعة في قلوب المسلمين، فسألت السائق عما إذا كنا سنمر بها، فأخبرني أننا قبلها سننعطف يميناً في اتجاه المكان الذي نقصده. في الأيام التالية سألت المسؤولين عن المنتدى عن الرحلة التي سينظمونها لمن ينوي العمرة، فلم أتلق إجابة شافية. وكنت قد عرفت من الذين جاءوا إلى الفعالية نفسها في السنوات السابقة أن المنظمين يخصصون رحلة إلى الكعبة، لا سيما أن«سوق عكاظ» كان ينعقد تحت رعاية أمير مكة.
في الطريق إلى مكة نزلنا عند الميقات، فاغتسلنا، وصلينا، وارتدينا ملابس الإحرام، ثم انطلقنا وصوتنا يخدش الصمت والظلمة الرائقة:«لبيك اللهم لبيك.. لبيك عمرة». كان الطريق يلف بنا، فنرى ضوءاً أخضر عال، عن اليمين، لا يلبث أن ينتقل إلى اليسار، وصديقنا الطبيب، يخبرنا بأنه عند الحرم، وأنا أعتقد أنه ينبعث من مئذنة المسجد المجاور للكعبة، فلما وصلنا وجدته خارجاً من برج قصير يعلو أفخم فندق يطل على ساحتها.
لحقنا بالركعة الثانية من صلاة الصبح، وبعد أن فرغنا منها بدأنا مناسك العمرة، من طواف حول الكعبة، وسعي بين الصفا والمروة، لينتهي بنا الأمر أمام حلاق باكستاني، ضرب مقصه في شعورنا فقصرها كثيراً.
حول الكعبة كانت هناك أصناف من البشر، جاءوها من كل فج عميق. اختلفت الأعراق والألوان واللغات واللهجات والجهات والطبقات، لكن توحدت الغايات والطقوس التي تعبر عنها، وعاش الكل إحساساً بأنه في مكان قريب من الله، فألقينا بأجسادنا بينهم، وهامت أرواحنا معهم، وألسنتنا تلهج بالتلبية، وأصابعنا تشير إلى الحجر الأسود، وفي رؤوسنا تنهمر كل الصور القديمة للذين سمعنا منهم حكايات عن المكان.
رفضتُ التقاط صورة أثناء الطوف أو السعي، كما يفعل البعض، محاولاً الحفاظ على براءة ما أفعله، ومتجرداً، على قدر الاستطاعة، من كل ما جرى للمكان من تغيير، كان هدفه إراحة الحجيج والمعتمرين، وقابله كثيرون بامتنان، لكن اجتاحني شعور بالغربة، ورغبة عارمة في أن أعيش التجربة كما عاشها الأقدمون. كعبة واقفة في أرض خلاء، تنظر إليها جبال مكة من قريب، ويرسل من يطوف بصره إلى الرمل فربما يجد قادماً من بعيد يمشي على قدميه أو راكباً راحلته قاصداً بيت الله الحرام.
كنت أغمض عيني بين حين وآخر، وأنا أسعى وأطوف، ولولا خوفي من الاصطدام بالطائفين والساعين لبقيت هكذا، أستدعي المكان الذي أرغب فيه، بريئاً طليقاً مجرداً من أي زينة أو فخامة ترسلها البنايات المحيطة بالكعبة إلى عيون المتحلقين حولها.
حين عدت إلى الطائف، لم أكن قد نمت ولو دقيقة واحدة، فوقعت في سبات عميق، وفي المنام جاءني ما رغبت، واعتمرت كما كان يفعل القدامى، فعدت بزمانين، واحد مشت فيه قدماي، والثاني هامت فيه روحي.