يبدو الحديث عن علاقات دولية مؤنسنة أو قائمة على الخير والسكينة مسألة خيالية في ظل علاقات دولية تجنح إلى التنافس والصراع أكثر مما تميل إلى التعاون والتكامل، لكن لا يجب أبداً التخلي عن هذه الرؤية المثالية والكفاح من أجل تحقيقها، أو على الأقل الحد من غلواء الصراع، ودفع العالم إلى شريعة الغاب.
وتجد هذه الرؤية الباحثة عن عالم متآلف ظلها في «القانون الدولي الإنساني»، الذي لم يكتف بتنظيم علاقات الدول وقت السلم، بل امتد إلى ساحات الحرب، لحماية المتضررين من النزاعات المسلحة. وجسد قانونا «جنيف» و«لاهاي» هذا الأمر، فالأول يتعلق بحماية فئات معينة من الأشخاص والأموال الثابتة والمنقولة، في حين ينظم الثاني استخدام وسائل القتال وطرقه وسلوك المتحاربين. وكل ما سبق يمثل «قانون الحرب» وهو الحد الذي لم يقف عنده فقهاء القانون الدولي، بل طرحوا مفهوماً أكثر تقدماً وهو «القانون المضاد للحرب»، أو منع «حق الحرب»، باعتبار أن حظر الحرب يجب أن يكون هو الأصل.
وتسير قضايا البيئة على المنوال ذاته، إذ إن الجهود التي بذلت من أجل بيئة نظيفة وطبيعية، دارت في الأساس حول علاقات دولية «إنسانية»، يتكاتف فيها البشر من أجل مصالحهم المشتركة، ويتعاملون في الوقت ذاته برفق ورحمة مع الكائنات الأخرى التي تعيش معهم، من حيوان ونبات.
ويدل استعراض الاتفاقيات البيئية الرئيسة متعدد الأطراف Key multi-lateral environmental agreements على هذا الأمر بجلاء، فالاتفاقية الدولية لتنظيم صيد الحيتان (1946) تمكنت بعد إقرارها بتسعة وثلاثين عاماً من تعليق صيد هذا الحيوان النادر لأغراض التجارة، وإقامة محميات طبيعية له. ومعاهدة انتاركتيكا (1959) وما لحقها من اتفاقية وقعت عام 1980 وبروتوكول مدريد (1991) عملت على حفظ الموارد الحية.
وهناك اتفاقية ماربول (1973)، التي تضع قواعد تفريغ النفط وغيره من المواد الضارة من السفن، بما يحمي البحار من التلوث. وفي العام نفسه وقعت اتفاقية لمنع الإتجار الدولي في الحيوانات المهددة بالانقراض. وبعدها بست سنوات وقعت اتفاقية للحد من التلوث الجوي. وفي عام 1985 وقعت اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، ثم بروتوكول مونتريال (1987) المتعلق بالمواد المستنفدة من الأوزون. وبعد ذلك بخمس سنوات جاءت اتفاقية الأمم المتحدة حول «تغيير المناخ»، تبعها بعد خمس سنوات أيضاً بروتوكول كيوتو حول المسألة نفسها. وقد أقرت هذه الاتفاقية بالمسؤولية التي تقع على عاتق البلدان المتقدمة عن التغير المناخي الذي ينجم عن أفعال البشر، وفي عام 1992 وقعت اتفاقية الأمم المتحدة المعنية بالتنوع الإحيائي، وبروتوكول قرطاجة بشأن السلامة في التقنية الإحيائية.
ورغم أن هذه الاتفاقيات لم تلق تطبيقاً كاملاً، وتشهد انتهاكاً لبنودها، خاصة من الدول الكبرى، ورأينا كيف تنصل من بعضها رئيس أكبر دولة في العالم وهو دونالد ترامب، فإن النضال يظل مستمراً في سبيل تنفيذ كل ما حوته، في سبيل نفع البشرية جمعاء، وتعزيز الجانب الإنساني في علاقات الدول، ودفع الدول الكبرى إلى أن تلتفت إلى توجيه جزء من ميزانياتها الضخمة إلى البيئة، ودرء الكوارث، وإدارة الأزمات التي ينتجها «غضب الطبيعة»، ومساعدة البشر على التغلب على الأخطار التي تحدق بهم، ومنها الأمراض الخطرة، بدءاً من «سارس» (الالتهاب الرئوي الحاد اللانمطي) في آسيا إلى «جنوب البقر» في أوروبا، إلى «الإيدز» و«السرطان» في كل أنحاء العالم، وأخيراً جائحة كورونا التي تتحور وتتوحش، وتفرض على العالم أن يتشارك، ويكون أكثر إنسانية في توزيع أدوات الوقاية واللقاح وتحمل الأعباء الاقتصادية وفهم المعنى الأعمق وهو أن أهل الأرض جميعاً في سفينة واحدة، وعليهم ألا يفعلوا ما يؤدي إلى غرقها، الآن أو غداً.