حبُّ الأمن والاطمئنان والراحة غريزة إنسانية وشعور فطري لا يُمحى من عمق الإنسان ومشاعره، فهو يولد به ويستمر معه، وهو أحد أركان السعادة التي يبحث الناس عن مصدرها الحقيقي منذ فجر التاريخ، وسيبقون كذلك إلى آخر الدهر.
والخوف غريزة إنسانية راسخة كذلك يولد الإنسان بها وتستمر معه، وحب الأمن والاطمئنان ينبعان من داخل الإنسان ويؤثران في تفكيره وسلوكه.
وعند ارتفاع مستوى الإحساس بالأمن في النفس الإنسانية ورسوخه فيها ينطلق الإنسان فكرًا وعملاً بكل طاقاته وقدراته، فيبدع فكرياً وينجز عملياً، لأنه مطمئن بأن قواه قد عملت بكل ما أوتيت من طاقة.
وإذا أحس الإنسان بالخوف ورسخ في نفسه، شُلَّت قواه الفكرية والعملية وأصبح عاجزًا بوجه أو أكثر.
والإنسان يخاف في حياته من أشياء كثيرة بعضها مؤثر مستمر، وبعضها عارض مؤقت، فيخاف المرض والعجز، ويخاف الجوع والفقر، ويخاف الاعتداء عليه، ويخاف الاعتداء على أسرته، ويخاف الإيذاء المعنوي والإساءة لكرامته، ويخاف القتل والدمار والموت والضياع لممتلكاته، ويخاف الجهل وعدم التعلم، ويخاف المستقبل له ولأولاده، ويخاف ويخاف... حتى إنه يخاف من عدم تقدير كفاءاته ومواهبه.
وإذا سيطر الخوف على شخص ما في أمر أساسي من أمور الحياة، فقد أبطل فاعليته وأصبح وجوده لا فائدة منه، وإذا سيطر الخوف على مجتمع فقد أصبح عرضة للتهاوي والانحلال، لأن أبناء هذا المجتمع الخائف سيبحثون عن ملاذات آمنة، فمنهم من يلجأ إلى القوة وتظهر بذلك العصابات هنا وهناك، ومنهم من يلجأ إلى الدين وقد يصل إلى الشعوذة والطلاسم، ومنهم من يلجأ إلى الاحتيال والنصب وجمع المال، والحصيلة أن المجتمع برمته أصبح مفككا حائراً منكمشا على نفسه يندر فيه الإبداع ويقل الأمن. الخوف يجر القلق والاضطراب، وهذا يجر الفكر المشوش والعمل المنحرف، وينعكس ذلك على كل نواحي الحياة الاجتماعية حتى يؤثر في الصحة الفردية، فالخائف المضطرب يمهد لصحة عليلة وجسم تخترقه الأمراض، لأن أول ما يتوجه إليه الخوف والقلق هو التأثير على الجهاز العصبي في الإنسان. وإذا اختل الجهاز العصبي الفردي والاجتماعي، فهذا بداية الكوارث التي جعلت التعايش بين الناس صعباً، حتى أوصلتهم إلى الخوف الدائم من حروب مدمرة بين الدول والشعوب.
أدرك الباحثون في العصر الحاضر ومنذ مدة طويلة خوف الإنسان المتأصل في داخله وأنواع هذا الخوف، فاستغلوه استغلالاً تجارياً، فهم يتاجرون بخوف الإنسان من المرض ليروجوا سلعاً يزعمون أنها واقية، واستغلوا حبه لممتلكاته فحولوا هذا الخوف إلى سلعة يستثمرونها، واستغلوا خوفه من الفقر فحولوا هذا الخوف إلى سلعة تبيع وهم الغنى والثراء السريع. ويطول بي التفصيل لأنواع استغلال غريزة الخوف والضرب على وترها، إلا أن من يتمعن يجد أن الخوف قد أصبح صناعة وحرفة تجارية، تستغلها جهات ومؤسسات ووسعوا دائرة الخوف عند الإنسان إلى أقصى حدّ.
ولكننا في مقابل هذا نجد مدرسة أخرى تنشر ثقافة الأمن، وتصنع الأمان وتزرع الأمل، وترينا وجه الحياة الجميل، والمستقبل الناضر الزاهر، إنها مدرسة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، الذي يؤصل أمام أجيال هذا الوطن وأجيال البشرية كلها مفهوما آخر للحياة، يقوم على الأمن والأمان والتعايش والتسامح، والإبداع الذي يخدم البشرية كلها والتعاون الإنساني المشترك... إنه حفظه الله يريد اقتلاع الخوف وأسباب الخوف من أبناء هذا الوطن، ليبرز النموذج الآمن المطمئن الذي يحتذى من كل الشعوب والقارات.
لقد وضع حفظه الله أسس هذه المدرسة وأكمل فكرتها، وبدأ استكمال أدواتها ومتطلبات إنجازها وتحقيقها عندما أعلن في مؤتمر دولي: إننا نفكر لما بعد انتهاء مرحلة النفط وحمل آخر برميل من بلادنا... فالحياة استمرارية والوطن باق والأجيال متتابعة، فماذا ترك السابق إلى اللاحق من أسباب العيش الكريم، والحياة الرغيدة، ومقومات الوجود؟ وهنا تبرز أركان هذه المدرسة بشموليتها للوطن كله، ولأبنائه جميعا من مختلف الأعمار والمستويات.
وبوضوح أهدافها في صناعة الوطن الآمن المستمر، والأجيال المطمئنة الواثقة، التي ترسخ أقدامها في أرض هذا الوطن وهاماتها في السماء تنافس الجوزاء.
إنه حفظه الله يتحدث عن السنين الخمسين القادمة، ولكنه يغرس في الأجيال الثقة والأمن والاطمئنان لعقود وقرون، فلا خوف على أساسيات الحياة من مسكن أو ملبس أو عيش كريم، ولا خوف من المرض وهو يبني أمامهم أعظم منظومة صحية موجودة، ولا خوف من فقدان مقعد في التعليم وهو يضع منظومة تعليمية فريدة من نوعها، ولا خوف على الأسرة والممتلكات ومنظومة الأمن المتطورة لا تنام عيونها وعيون أبناء الوطن تنام قريرة هانئة، ولا خوف من تاجر على تجارته أن تبور وهو يفتح أمامها آفاقا عالمية جديدة ومتنوعة، ولا خوف من صانع على صناعته وهذه المدرسة تمد الجسور لكل الجهات، لتكون هذه الصناعات المنبثقة من هنا محل القبول والاهتمام والتقدير، ولا يخاف مبدع أن تضيع فكرته وإبداعاته، فهي محل التقدير والعناية والتكريم في مدرسة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد حفظه الله، ولا خوف من المجهول، لأن فلسفة هذه المدرسة، هي التي تصنع هذا المجهول قبل أن يأتي بالكيفية التي ترفع شأن الوطن وأبنائه.
وقد قال أحد الفلاسفة: «إن القدر ليس مسألة فرصة، بل هو مسألة اختيار، إنه ليس شيئاً يجب انتظاره، بل هو شيء يجب السعي لتحقيقه»، وهذا هو نهج مدرسة الشيخ محمد بن زايد حفظه الله، فقد بدأت العمل للخمسين القادمة من السنين في كل المجالات التي تجعل هذا الوطن واحة أمن ومركز إبداع، وركيزتها الأولى في ذلك صناعة الأمن ونشر ثقافته، واقتلاع الخوف الذي يشل القوى ويعرقل المسير، وترسيخ هذه الثقافة في أبناء الوطن، وهو يعمل حفظه الله لذلك دون كلل أو ملل، والإنجازات الكبيرة لا تأتي بالتواني أو التقاعس، بل بالعمل والتدخل والمبادرة من العظماء الذين يصنعون بأنفسهم الأشياء، والتفوق يكون بالتحدي.
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد حفظه الله وهو يرسخ ثوابت هذه المدرسة ويحصِّنها بأسباب الاستمرار والقوة والازدهار، يدفع أبناء وبنات هذا الوطن، ليكونوا جزءًا لا يتجزأ من صناعة هذا الوطن الآمن المزدهر، وكان من آخر ما حثَّهم عليه في هذا الباب، طلبه من الذين يؤدون واجب الخدمة الوطنية أن يتابعوا دروسهم كل في ميدانه وتخصصه، حتى لا يضيعوا سنوات شبابهم أو جزءاً منها دون رقي أو تقدم، أو تحصيل ورفعة، ومطلوب منهم مقابل ذلك أن يتشبعوا ويرتووا من مضامين هذه المدرسة ومفاهيمها، لأنها فريدة في عالمنا في القرن الواحد والعشرين، نبيلة في غاياتها ومراميها، إنها تؤكد لأبناء هذا الوطن أن لا خوف يداهمكم أو يصل إليكم، فأظهروا مواهبكم وقدراتكم وسيروا في هذه الربوع ليالي وأياماً آمنين.
والشيخ محمد بن زايد حفظه الله يريد نشر ثقافة هذه المدرسة خارج الوطن في ربوع مسَّها الضر، وأحاطت بها الغوائل وليس هذا جديداً، بل هي شمائل وفضائل توارثها من الوالد القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، ففي هذه الجائحة (كورونا) ظهرت صدارة هذه المدرسة عالميا، وآثارها الخيرة تجوب العالم بطوله وعرضه، تنشر ثقافة الأمن والتسامح بالفكر والعطاء.
ما أحوج العالم إلى هذا الفكر الباني والعمل الرشيد والتوجه السديد الذي خطه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد حفظه الله، ليخفف من وطأة الخوف التي أثقلت النفوس والأرواح والأجساد والمجتمعات والدول. حفظ الله الشيخ محمد بن زايد نموذجا إنسانيا فريداً، وحفظ هذا الوطن من كل العوادي والمحن.
* المستشار الدكتور/ فاروق محمود حمادة
المستشار الديني بديوان ولي عهد أبوظبي.