مازالت المرحلة الاقتصادية الاجتماعية المصاحبة لتكنولوجيا الحوسبة وما بعدها تتعدد تسمياتها ومفاهيمها، المعلوماتية، المعرفة، الشبكية، الرقمنة والديجيتال، الثورة الصناعية الرابعة، ما بعد الصناعة، الموجة الثالثة.. وكلها بالطبع مستمدة من الرقمنة التي بدأت منذ منتصف القرن العشرين، وصارت تحول في الموارد والأعمال والفلسفة والقيم والأفكار والثقافة والعلاقات والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي.
ويمكن وصف الموجة الثالثة بما هي مرحلة اقتصاد المعرفة أو الشبكية تقنياً بأنها سلسلة من الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة. فالحوسبة بما هي محاكاة للإنسان وترميز رقمي للنصوص والصوت والصورة والمعارف والخبرات والمهارات.. أنشأت عالَماً جديداً من الموارد والفرص والمهن والأعمال، وغيّرت الحالة السابقة من القوى والعلاقات والمؤسسات والقيادات إضافة إلى المهن والأعمال، وأتاحت المجال واسعاً للتأثير والتعليم والتدريب والإحاطة الواسعة لفئة واسعة من المجتمعات والطبقات لم يكن بمقدورها ذلك أو كانت تحتاج إلى نفقات وأوقات طائلة.وفي التشبيك وثورة الاتصالات أمكنت إتاحة المعرفة والمحتوى الرقمي على شبكات الإنترنت والاتصالات، مما أتاح المجال بلا حدود لجميع الناس في الاطلاع والتواصل والإحاطة المعرفية والتدريب والتعليم والتعلم والتأثير والتجمع وتبادل المعلومات والخبرات والتسويق والبيع والشراء.. على نحو مدهش، بتكاليف قليلة وبمهارات ممكنة لجميع الناس، لدرجة أن العالم القائم اليوم يمكن وصفه ببساطة بـ«access» الوصول إلى الشبكة. فبمجرد الوصول إلى الشبكة يصبح الأفراد والشركات والمجتمعات والجماعات أعضاء متساوين (تقريباً) في التأثير والمشاركة.
وفي التصغير أمكن تقليل النفقات والطاقة التي يحتاجها التشغيل ونقل الأجهزة المتقدمة إلى أي مكان في العالم، وصارت تقنيات المعرفة والحواسيب متاحة لجميع الفئات العمرية والاقتصادية، وبمزيد من التصغير (نانو تكنولوجي) أمكن أداء مجموعات واسعة من التطبيقات والأعمال والإنجازات في المعرفة والطب والصيانة كانت تبدو متعذرة أو مكلفة جداً.
وبأنسنة التقنية، أي بمحاكاتها للإنسان، وبتصميمها وبرمجتها على النحو الذي يتيح لكل إنسان تقريباً وبمهارات وخبرات عادية وعامة دون حاجة لوساطة مختصين أو مساعدتهم أمكن لكل إنسان تقريباً أن يعمل بنفسه ولنفسه في الحياة والعمل والخدمات والتعليم والعلاج والتواصل والتسويق.. وأن يكون ما يحب وما يريد أن يكون عليه وأن يحظى بمساعدة وخدمات كبيرة ومتسعة ومتعددة يقدمها له الحاسوب أو الشبكة، مما كان يحتاج سابقاً إلى مكاتب ومساعدين ونفقات لا يقدر عليها إلا فئة قليلة من الناس.
في هذا المسار التقني وحوله يمكن ملاحظة منظومات واسعة من التحولات الكبرى والجذرية في العلاقات والموارد والتأثير والفئات الصاعدة والمنسحبة والمنقرضة،.. ففي التحول من الصناعة إلى المعرفة صعدت الفئات العاملة في المجال الإبداعي والمعرفي، مثل التصميم والبرمجة والإعلام والنشر والبحث، وأصبح الخيال هو المورد الرئيسي الذي يقود التقدم والتحولات، وفي التحول من الهرمية إلى الشبكية تغير دور الدولة والنخب وعلاقاتها بالأفراد والمجتمعات، اليوم ثمة مساواة مدهشة، في الحصول على المعلومات وتبادلها وفي التأثير والتعليم والفرص، وفي التحول من الحتمية إلى الاختيار لم يعد الفرد والمجتمع ملزمين بما تقدمه لهم جهات إعلامية أو معرفية أو سياسية محددة، ولكنهم يغرفون من مصادر في جميع أنحاء العالم بلا حدود، وهم أيضاً لا يتلقون فقط المعرفة والمعلومة والخبر ولكنهم يشاركون في تقديمها وعرضها ونشرها. ثمّة تحوّلات كبرى وجذرية في الأسواق والأعمال، ناشئة عن «التحولات الرقمية»، تبدو حتى اليوم منشئةً للفوضى وفقدان الموارد وزيادة الفجوة بين الأمم والدول، وبين الفقراء والأغنياء في الدولة الواحدة، وتأتي بأغنياء جدد وفقراء جدد أيضاً، ولا تبدو الوعود المنطقية في الرخاء والازدهار الناشئين عن «الرقمنة أو الحوسبة» تلقائيةً، وثمّة شكوك تحيط بها.
وعلى الرغم من كثرة (وتكرار) الحديث والكتابة والدراسات والتحليلات في هذا الشأن، ما زالت الأفكار الناشئة عن التحولات، ومحاولة فهمها غامضة جدلية، وأسوأ من ذلك أنها لم تنشئ في عالم العرب جدلاً إيجابياً وكافياً للاهتمام، والاستجابة للتحديات والفرص الناشئة.. وفي ذلك، تتضاعف الخسائر، ويزيد هدر الوقت والجهد. *كاتب أردني