التصريح اللافت الذي أدلى به وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، في مايو 2021، وأشار فيه إلى «أن بلاده على استعداد لصراع محتمل في المستقبل، لا يشبه كثيراً الحروب القديمة»، ينبأ بأن العالم قد يتحول إلى نمط جديد من الحروب يختلف في أدواته عن الحروب التقليدية، يعتمد بالأساس على مخرجات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي التي أحدثت طفرة هائلة في الصناعات الدفاعية والعسكرية، وكل هذا سينعكس على جيوش المستقبل وطبيعة المهام التي قد تقوم بها في إدارة هذه الحروب.
تضمنت تصريحات وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في أول كلمة سياسية مهمة له، خلال زيارته للقيادة الأميركية في المحيط الهادي بهاواي في مايو 2021 بعض الإشارات المهمة إلى وجود تصور مختلف حول صراعات وحروب المستقبل، حينما أشار بوضوح إلى أنه على الولايات المتحدة الاستعداد لصراع محتمل في المستقبل لا يشبه كثيراً «الحروب القديمة» التي «استهلكت» وزارة الدفاع لفترة طويلة.
كما دعا أوستن إلى حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية على الصعيد العالمي، من أجل «الفهم بشكل أسرع، واتخاذ القرار بشكل أسرع، والعمل بشكل أسرع» وأضاف أن «الطريقة التي سنقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة تماماً عن الطريقة التي قاتلنا بها في الحروب السابقة. في ضوء حديث «لويد أوستن»، يمكن القول: إن التصور الأميركي لصراعات وحروب المستقبل يرتكز على التكنولوجيا المتقدمة- وخاصة الذكاء الاصطناعي- التي أصبحت تشكل معالم الأجيال الجديدة من الأسلحة الدفاعية والعسكرية حول العالم، واختلاف ساحات حروب المستقبل عن الحروب التقليدية، فلا تعتمد على المواجهات المباشرة، وإنما تقوم على إدارة الصراعات والحروب عن بُعد، من خلال الهجمات السيبرانية والفضاء كأهم أدوات الردع، والتركيز على الأدوات التي تمكن قيادات الجيوش من«الفهم بشكل أسرع، واتخاذ القرار بشكل أسرع، والعمل بشكل أسرع»، على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي، وهذا يعني أن الولايات المتحدة ترى أن الاستعداد لصراعات وحروب المستقبل يتطلب أدوات جديدة غير تقليدية لإدارتها تعتمد على الكيف والنوع والجودة، وضرورة امتلاك المهارات القيادية التي تمكنها من إدارة هذه الحروب بكفاءة ومرونة عالية، والتحول في العقيدة القتالية للجيوش، لتواكب صراعات وحروب المستقبل، حيث سيتم التركيز على الأدوات الرادعة التي يمكن خلالها أن تؤدي القوة العسكرية وظيفتها في تغيير سلوك الأطراف المتصارعة.
ولعل من أهم مظاهر التحول في العقيدة العسكرية الأميركية، والتي بدأت في التبلور في نهاية حكم الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب هي فكرة الانسحاب من مناطق الأزمات والصراعات التي أنهكت الجيش الأميركي، وكلفت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات، فالحروب التي خاضتها في أفغانستان والعراق خلال العقدين الماضيين لم تضر فقط بمصالحها ولا بهيبة الجيش الأميركي، وإنما أيضاً استنزفت قدراته وأخرت عملية تحديثه لدرجة دفعت العديد من المسؤولين الأميركيين إلى القول: إن الجيش الأميركي لا يزال يستخدم في الوقت الراهن تقنيات تعود إلى عقدين أو أكثر، هذا في الوقت الذي شهدت فيه القوة العسكرية لدول أخرى، كروسيا والصين، طفرة غير مسبوقة أصبحت تهدد التفوق الأميركي، لهذا فإن الحديث الأميركي المتصاعد خلال الآونة الأخيرة حول حروب وصراعات المستقبل لا ينفصل عن كل ما سبق، ويأتي في سياق التحول إلى مرحلة جديدة تعيد فيها الولايات المتحدة أولوياتها لتكون على أهبة الاستعداد للتعامل مع حروب المستقبل.
لا شك أن الحديث المتصاعد حول صراعات وحروب المستقبل يتطلب من الجيوش حول العالم الاستعداد لمواكبة متطلباتها والإلمام بأدواتها، حتى تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر والتهديدات التي قد تثيرها على الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للدول. وهناك العديد من الخبراء يرون أن جيوش المستقبل ستختلف في ملامحها وطبيعة مهامها عن الجيوش التقليدية، بحيث ستركز بالأساس على النوعية والكيف، سواء فيما يتعلق بالعنصر البشري أو الأسلحة، وأنها ستكون أقرب إلى القوة الشاملة الصغيرة التي تمتلك ما يكفي من الأفراد المؤهلين والمعدات العسكرية الحديثة القادرة على هزيمة قوات معادية تقليدية ضخمة.
من الواضح في ضوء ما سبق أن الولايات المتحدة تقود العالم نحو الاستعداد لمرحلة جديدة من صراعات وحروب المستقبل، التي تستفيد من خبرات ودروس الحروب التقليدية التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين، وهي حروب ترتكز على التكنولوجيا المتطورة التي تعيد تشكيل منظومات الدفاع والأسلحة في العالم، وصياغة الاستراتيجيات الدفاعية لتأخذ في الاعتبار المنظور الشامل لهذه الصراعات، فهي ليست فقط عسكرية، وإنما اقتصادية وتكنولوجية وثقافية وسياسية، وترتبط بالصراع على المكانة والنفوذ في النظام الدولي.
* إعلامي وكاتب إماراتي