تلقيت هذا الأسبوع اتصالاً من أحد أعضاء فريق بحث علمي حول الأمن يتساءلون عن عدة أشياء من ضمنها الفرق بين الأمن الوطني والأمن المجتمعي، وكيف هو واقع الأمر في دولة الإمارات العربية المتحدة، فوعدت بالإجابة حول كل التساؤلات في مقالي لهذا الأسبوع، للفائدة العلمية من ناحية، ولتوضيح وجهة النظر الإماراتية حول هذه المفاهيم التي تبدو للوهلة الأولى غامضة أو غير واضحة بما فيه الكفاية.
في مقال سابق هنا، وضحت أنه ليس هناك فرق بين مفهومي الأمن الوطني والأمن القومي، فكلاهما «مصطلح يدل على المنظومة العسكرية والسياسية والاجتماعية التي تُقدم الحماية المشتركة لمجتمع الدولة الواحدة»، ويصبح استخدام مفهوم الأمن القومي أحياناً، خلال الحديث عن مجموعة من الدول التي تجمعها مظلة قومية واحدة، في العرق والدين واللغة والعادات، وكذلك المصالح وغيرها، لا يؤسس لمفهوم جديد، بل يكون السبب الاختلاف الناشئ عن تراكمات استخدام المصطلح فقط أو ترجمته من لغة إلى أخرى.
بالنسبة للأمن المجتمعي، فهو لا يختلف عن الأمن الوطني، لكن منظور وتوجهات وآلية دراسته مختلفة، وبالتالي فإن تطبيقاته تصبح مختلفة أيضاً، فالأمن المجتمعي تتم دراسته من منظور اجتماعي وليس أمني، أي أن القائمين على الدراسات الاجتماعية من متخصصين مؤهلين هم الذي يرشحون الموضوعات أو التحديات التي تُعدّ تهديداً للأمن المجتمعي، وتتم دراستها بعمق وتأن شديدين، كجراحة دقيقة تصل بهدوء شديد إلى الجسد المجتمعي لتشخيص حالة معينة وفحصها من جميع الجوانب والأبعاد، ومثال ذلك التحديات في موضوع الهوية والقيم أو التركيبة السكانية، أو موضوعات أخرى متوسطة الحدة، مثل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على وحدة وتوافق المجتمع، أو موضوعات عالمية مزمنة، مثل الطلاق وتأخر سن الزواج، وغيرها من الموضوعات التي قد تهدد الأمن المجتمعي.
الأمن الوطني يضع سياسات استراتيجية تغطي كافة مفردات الأمن لضمان استقرار الدولة والمجتمع والأسرة والأفراد، ليس من ناحية عسكرية وسياسية وأمنية فقط، بل من نواحي اقتصادية واجتماعية وثقافية وصحية وبيئية أيضا، وقد يُستفاد من دراسات الأمن المجتمعي التي استطاعت النجاح في إظهار قيمتها العلمية والعملية بتشخيص مشكلة اجتماعية مرتبطة بتهديد الأمن المجتمعي، وليس التشخيص فحسب، بل الاقتراحات والتوصيات التي يمكنها أن تكون فاعلة في علاج الظاهرة أو المشكلة الاجتماعية، عندها يمكن أن تدرج للنقاش ضمن السياسات الاستراتيجية الأمنية مع تقديم نسخ منها للجهات التشريعية والجهات الاجتماعية المعنية في ذات الوقت.
رؤية دولة الإمارات العربية في الأمن المجتمعي، بدأت يوم تأسيس الاتحاد في الثاني من ديسمبر 1971 ، وقد ظهرت جلية في الدستور الإماراتي باعتباره يمثل الوثيقة الوطنية، التي توضح القواعد الأساسية للتنظيم السياسي في الدولة والاختصاصات التشريعية والتنفيذية والدولية بين الاتحاد والامارات الأعضاء فيه، ويؤكد أيضاً على الحريات والحقوق والواجبات العامة للمواطنين، ويهدف إلى النهوض بالبلاد وشعبها إلى المنزلة التي تؤهلهما لتبوء المكان اللائق بين الدول، والذي يعني أن الدستور الإماراتي هو المرجع الأول للأمن المجتمعي الذي حافظ على استقرار، وتقدم الدولة بالعدالة المجتمعية والمساواة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والعرق والمذهب، وكذلك تكافؤ الفرص والإبقاء على الخصوصيات الثقافية، التي ترسخ وتعزز مبدأ التنوع في إطار الوحدة وصون الحريات واحترام حقوق الإنسان، والذي يضمن الحقوق الدستورية والشرعية للأفراد عبر حكم عادل، يراعي شؤون الجميع من مواطنين ومقيمين وزائرين، ويعمل على توفير أسباب الطمأنينة الكاملة لهم.
الدستور والتشريعات والقوانين الناظمة، ومع نعمة عظيمة وهبت للإمارات بقيادة حكيمة رشيدة، وفّرت المؤسسات الأمنية والاجتماعية المتخصصة والمؤهلة، ووفرت الكفاءات البشرية المواطنة المتعلمة والمدربة، كانت كلها من أهم الأسباب التي جعلت من الأمن المجتمعي في دولة الإمارات العربية المتحدة متفوقاً ومتقدماً على الأمن المجتمعي في دول كبرى وعظمى، تتباهى بتقدمها العلمي أو العسكري، ولكن هذه الدول ما زالت تعاني من العنصرية والخلاف الثقافي والاجتماعي وارتفاع نسب الفقر والبطالة والمشكلات الاجتماعية المتفاقمة، وهذا دليل آخر يؤكد أن دولة الإمارات، وحين اتجهت بشكل كامل لنشر قيم الأخوة والسلام في المنطقة والعالم كان بناء على تحقيقها إنجازاً لافتاً بإرساء الأمن المجتمعي بأفضل صورة ممكنة، والذي استند على رؤية عميقة وحقيقية أنها أصبحت جاهزة ومتمكنة ومستعدة لقيادة التوجه الإنساني نحو السلام والأمن والاستقرار.
* لواء ركن طيار متقاعد