تمضي الأوضاع السياسية والاستراتيجية في ليبيا في دائرة واحدة، وما تزال هناك الكثير من الصعوبات للوصول إلى استقرار حقيقي، والالتزام باستحقاقات المرحلة الانتقالية، وإجراء الانتخابات في ديسمبر المقبل، فما زالت المواقف غير واضحة، وما تزال الرهانات على الفشل قائمة، وفي ظل صراعات إقليمية دولية لافتة فما زال المشير خليفة حفتر يتحفظ علي بعض الخطوات، ومنها منصب وزير الدفاع، والذي يعتبره شاغراً حتى الآن مع رفض الاعتراف بقيام رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بتعيين محمد الحداد رئيساً لأركان الجيش، مع التأكيد على أن الفريق عبد الرزاق الناظوري هو رئيس الأركان العامة للجيش بقوة التشريع، إضافة لاستمرار التدخل التركي في الداخل الليبي بصورة سافرة، والتي أكدتها زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لليبيا، خاصة أن تركيا لا تعتبر وجودها أجنبياً، ومن ثم فإن المطالبات بإخراج قوات المرتزقة لا يخص وجودها.
والنتيجة أن مسار التسوية يواجه تحديات عديدة كانت محل مناقشة خلال مؤتمر برلين 2 الذي انعقد في 23 يونيو الجاري، حيث هناك مشكلات عالقة، أهمها إخراج قوات المرتزقة التي نشرتها تركيا بموجب مذكرة تفاهم للتعاون العسكري الذي وقعته مع حكومة السراج في 27 نوفمبر 2019 وبمقتضاه تم إرسال آلاف المقاتلين السوريين لدعم قوات «الوفاق الوطني»، والرسالة أن هذه المشكلات، وغيرها قد تؤدي لعرقلة الوصول للهدف الرئيس وإجراء الانتخابات، على اعتبار أن خروج القوات التركية سيدفع بالعملية السياسية نحو الأمام، خاصة أن قبول تركيا سحب قواتها سيعد مكسباً لفرنسا لتخوفها من أن يكون تسلل هؤلاء الإرهابين للداخل الأوروبي، وأنه قد يؤدي لحالة من عدم الاستقرار في شمال أفريقيا وبلدان الساحل.
ولاشك أن الخلافات الأوروبية بشأن ما يجري داخل ليبيا، قد امتد بالفعل إلى الداخل الليبي المحتقن أصلاً، فتركيز وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش علي ضرورة انسحاب القوات التركية أثار انقسامات واضحة في صفوف الحكومة بين مؤيد لبقائها، ومصر علي انسحابها، وهو ما قد يمتد إلى بقية الملفات التي تتخوف الحكومة الراهنة من الاقتراب منها خاصة أن فرنسا تتحرك في دائرة واضحة ومباشرة، فيما يراوغ الجانب التركي كعادته، وهو ما قد ينذر باتساع رقعة الخلاف ليس في ملف المرتزقة، بل أيضاً في تنفيذ الخريطة السياسية التي توافق بشأنها مسبقاً. الأمر يتطلب إعادة التأكيد علي ضرورة التوافق الأوروبي الإقليمي، وخاصة المصري للإسراع بتنفيذ ما تم مسبقا، وإلا فإن تأجيل الانتخابات المقررة في ديسمبر المقبل قد يؤدي لتداعيات خطيرة قد تستغلها العناصر الإرهابية في التحرك، وإرباك المشهد السياسي بأكمله، وهو ما يجب التحسب له فعلياً في ظل خيارات متعددة بدأت تلوح في الأفق، وفي ظل الصراع المعلن داخليا حول المناصب العليا خاصة العسكرية، والذي امتد مؤخراً إلى المناصب التنفيذية، فكل طرف سيظل يستقوي بما لديه من أوراق الضغط التي يملكها في مواجهة الأطراف الأخرى.
* أكاديمي متخصص في القضايا الاستراتيجية والعلوم السياسية.