استبق الرئيس الأميركي اجتماعه الأول مع نظيره الروسي، الذي يُعقد الأسبوع القادم في جنيف، بإجراء تغيير جزئي في المنهج الذي اتبعته الإدارة الأميركية تجاه روسيا خلال أسابيعها الأولى في الحكم. ويبدو هذا طبيعياً إلى حد كبير، لأن الاتجاه إلى التصعيد كان متعجلاً، ومرتبطاً في بعض جوانبه على الأقل بغضب ناتج عن اعتقاد شائع في أوساط إدارة جو بايدن وحزبه بأن الروس تدخلوا لمصلحة الرئيس السابق دونالد ترامب في انتخابات 2016 و2020. فقد خفت حدة الخطاب الرسمي الأميركي تجاه موسكو في الشهر الأخير، وجُمد فيما يبدو الاتجاه إلى ضم أوكرانيا للحلف الأطلسي، الأمر الذي أدى إلى خفض مستوى النزاع الأكثر أهمية بين الدولتين الكبيرتين منذ ضم جزيرة القرم بالقوة إلى روسيا عام 2014. ويكتسب النزاع الأوكراني أهمية خاصة لأنه يقع على حدود روسيا، التي ترى في علاقة «كييف» الوثيقة مع أميركا والغرب تهديداً أمنياً وسياسياً مباشراً. وأكثر ما تخشاه موسكو هو ضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، ليصبح هذا التهديد استراتيجياً، لاسيما وأن ثلاثةً من جيران روسيا الآخرين أعضاء الآن في هذا الحلف. وكان نقد أوكرانيا رسمياً، في 27 مايو الماضي، حلف الأطلسي لما أسماه وزيرُ خارجيتها ديمترو كوليفيا «عدم تسريع آلية انضمامها أسوة بجمهوريات سوفييتية سابقة» مؤشراً على تجميد واشنطن هذا الملف في الأمد المنظور على الأقل. ويمكن الربط، هنا، بين هذا التجميد وإقدام روسيا على سحب جزء كبير من قواتها التي كانت قد حشدتها على الحدود مع أوكرانيا.
ولا يعني هذا أن العلاقات الأميركية الروسية تتحسن. فالفرق كبير بين الحد من التصعيد والتحسن. والأرجح أن إدارة بايدن أدركت صواب موقف الرئيس السابق دونالد ترامب عندما حرص على التهدئة مع روسيا، في الوقت الذي اتجه إلى التصعيد ضد الصين، وفق المنهج الذي اتبعته إدارات أميركية عدة سابقة منذ أن ابتكر وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر دبلوماسية البنج بونج مع بكين في مطلع السبعينيات.
لم يحدث تحسن في العلاقات خلال فترة ترامب، لأن قضايا الخلاف أكبر من أن تسمح بذلك، فضلاً عن ميراث الحرب الباردة الذي مازال قوياً لدى مؤسسات السياسة الخارجية والأمن القومي في الدولتين. لكن حرص ترامب على علاقة طيبة مع بوتين ساعده في تجنب التصعيد.
وفضلاً عن الأزمة الأوكرانية، التي تبقى مصدراً لتوتر من وقت لآخر، تتباعد مواقف الدولتين تجاه أزمات إقليمية أخرى في سوريا وفنزويلا وليبيا. أما التنافس بشأن القضايا الاستراتيجية الحالية فيبقى مستمراً، ومُتجدِّداً، وآخذاً في التوسع أيضاً. ولعل آخر مؤشر إلى استمراره تأكيد إدارة بايدن قبل أيام الانسحاب بشكل نهائي من اتفاقية الأجواء أو السماوات المفتوحة التي تعطي كل دولة منضمة إليها (32 دولة) الحق في إجراء استطلاع جوي فوق أراضي الدول الأعضاء الأخرى للتحقق من أي معلومات لديها، على نحو يخفض احتمال نشوب نزاعات مسلحة مدفوعة بشكوك أو بيانات غير وثيقة.
أما آخر مؤشر على توسع نطاق التنافس الاستراتيجي، فهو امتداده إلى منطقة القطب الشمالي التي ازدادت الفجوة بين موقفي الدولتين بشأنها، إذ تُصر روسيا على أنها تحت ولايتها وأن نشاطها العسكري فيها مشروع، في حين ترى أميركا أنها يجب أن تكون منطقة تعاون سلمي ومواجهة تحديات مشتركة. وهذا التنافس الاستراتيجي من طبائع الأمور، ولا ينطوي على خطر إذا أُحسنت إدارته. وستُحدد قمة اليوم الطريقة التي سيُدار بها هذا التنافس في السنوات الثلاث المقبلة، ومن ثم الاتجاه الذي ستمضي فيه العلاقات الأميركية الروسية حتى عام 2024.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية