الانعطافات الكبرى للدول والمجتمعات البشرية، تحتاج إلى قادة ليسوا عاديين، لديهم الرؤية البعيدة، ويمتلكون الشجاعة لتنفيذها، وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان ممن لهم علاقة جيدة بالتاريخ.
فما فعله على سبيل المثال، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في رواندا التي وصلها الأسبوع الماضي، هو عمل حكيم وجريء، يُسجل لصالحه كقائد سياسي شاب يريد نقل فرنسا لمواجهة التاريخ، والنظر إليه وجهاً لوجه بهدوء وسلميّة. وخطوة كهذه لطالما هرب منها كثيرون، كونها مشحونةً بذاكرة الماضي المثقلة بالآلام والدماء، وأشباح الضحايا خلف الشجر والحجر مقيمةً لا تبرح المكان رغم مرور ربع قرن على الإبادة الجماعية لعرقية «التوتسي» في رواندا عام 1994، والتي استغرقت 100 يوم، وراح ضحيتها 800 ألف شخص.
ذاكرة رهيبة للعظامِ فيها عيون لا تنام، تساءل عنها ذاتَ يوم الكاتب الياباني «ياسوناري كواباتا» قائلاً: «العظام المحترقة كيف تقنعها أن تنسى». لكن ماكرون أكد أنه سيكون «حريصاً على كتابة صفحة جديدة» بين البلدين، فيما أكدت الرئاسة الفرنسية أن الزيارة ستكرّس «المرحلة الأخيرة لتطبيع العلاقات». ولفرنسا اليوم محاولات جادة في سياق مواجهة الماضي من تاريخها، لإحلال ما سمّيّ «ذاكرة وحقيقة»، كما قال المؤرخ الفرنسي «بنجامان ستورا»، والتي تهدف في الأساس إلى إشاعة فضاء من الاندماج والتوافق بدلاً من «ذاكرة الاستعمار»، وإعادة الدفء إلى العلاقات بين ضفتي المتوسط، وخاصة فيما يتعلق بالجزائر تحديداً، ففي هذا الصدد، أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيشارك في ثلاثة احتفالات تذكارية في إطار الذكرى الستين لنهاية حرب الجزائر في العام 1962، وهي اليوم الوطني للحركيين في 25 سبتمبر المقبل، وذكرى قمع تظاهرة الجزائريين في باريس في 17 أكتوبر عام 1961، وتوقيع اتفاقيات «إيفيان» في 19 مارس 1962.
وماكرون الذي اعتذر للجزائريين عن التعذيب الذي قام به الفرنسيون في أعوام الثورة في الجزائر، لا يزال يَنتظر منه الجزائريون أن يعتذر عن الاستعمار الذي دام 132عاماً، وهذه الخطوة بالنسبة لهم تعدُّ رئيسية وتشكل أهمية خاصّة، لم تفلح فيها مبادرة إعادة فرنسا رفات ثوار الجزائر لدفنهم في الوطن، رغم أن المراقبين اعتبروها مؤشراً جيداً على أن العلاقات الفرنسية الجزائرية باتت أقرب للخروج من الشلل الذي تسببه قضايا الذاكرة العالقة لدى ملايين العائلات في البلدين.
إن الشعور بقيمةٍ أكبر للحياة، قد يكمن في كلمات بسيطة ومعدودة، لا تكلف جهداً، ككلمتي «أعترفُ.. وأعتذرُ». *إعلامي وكاتب صحفي