أيام قاسية يعيشها اللبنانيون والسوريون، في وحدة مسيرة القهر والتهديد والقلق، مع التدهور الكبير لسعر صرف الليرة في البلدين أمام الدولار الأميركي، في ظل جمود الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة بشكل قياسي، والغلاء الفاحش لأسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، فضلاً عن أن خطر المجاعة مع الفوضى العارمة، يكاد يسيطر على صورة المستقبل المظلم.
يحدث ذلك بعد فشل سياسة إدارة الأزمة النقدية، وتعميم «الدولرة» حتى أنه مع تفاقم انعدام «الثقة» بالسلطات المالية والمصرفية في البلدين، برزت ظاهرة دولرة «الكاش» التي ساهمت في عمليات المضاربة، وتدهور قيمة العملتين (اللبنانية إلى 13000 ليرة والسورية إلى 4000 ليرة مقابل الدولار). وقد بلغ حجم السيولة المتداولة بالعملة الأجنبية في منازل اللبنانيين نحو17 مليار دولار، وتضاعف تداول العملة المحلية خارج مصرف لبنان أكثر من خمس مرات إلى 37 تريليون ليرة، في أقل من 18 شهراً. أما في سوريا، وعلى الرغم من أن القوانين تقضي بتشديد العقوبة على كل من يتعامل بغير الليرة السورية داخل البلاد، فإن تداول العملة الأجنبية بين السوريين يقدر بمليارات عدة، منها نحو 3 مليارات دولار من تحويلات العاملين في الخارج إلى ذويهم، إضافة إلى الأموال المهربة عن طريق لبنان. ونظراً لضخامة دولرة «الكاش»، فقد اضطر البنك المركزي إلى رفع السعر الرسمي للدولار من 1256 ليرة إلى 2512 ليرة، ليقترب من سعر السوق السوداء، في محاولة منه لجذب الدولارات المنتشرة بين السوريين. وإذا كان المصرفان المركزيان في بيروت ودمشق، يهدفان إلى تأجيل الانفجار وإطالة عمر نظاميهما، فإنهما يحاولان في المضمون امتصاص ما تبقى من دولارات تتناقل بين البلدين، وتنحو سياستهما تدريجياً باتجاه الاعتراف بسعر السوق الموازية الذي ظل مقيداً لعقود من الزمن.
لا شك في أن حدوث هذا التباين في أسعار الصرف، يعني تلقائياً وجود حالة من عدم الانتظام والفوضى في سوق القطع والنظام المالي، فيما يؤشر الفارق إلى حدة المشكلة واتساع نطاقها. وتزداد مخاطر هذه الظاهرة، مع تعميم تعدد الأسعار. ووفق التصنيف الوارد في دراسة أعدها معهد التمويل الدولي، يحتل لبنان المرتبة الأولى بنسبة 720% للفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق السوداء، وهو الأعلى على الإطلاق عالمياً. وتأتي سوريا في المرتبة الثالثة بنسبة 190%، بعد تركمانستان (520%)، وإيران (490%). وأعادت الدراسة اتساع الفوارق بين أسعار الصرف المتعددة إلى فشل السلطات الرسمية في التحكم بحجم الكتلة النقدية المتداولة في السوق.
تبقى الإشارة إلى أن مخاطر الاقتصاد النقدي القائم على دولرة «الكاش» لإتمام الصفقات، يصبح تلقائياً جنة من جنان «تبييض الأموال» خصوصاً أن هذا النمط من التداول يسهل تدوير الأموال غير المشروعة، وإدخالها في العمليات التجارية الشرعية من دون قيود النظام المالي المعروفة. وهذا النوع من الاقتصادات، غالباً ما يثيرهواجس وقلق المصارف التجارية والمركزية الأجنبية وحكومات الدول الغربية، ما يهدد مع الوقت بعزل البلاد تدريجياً عن النظام المالي العالمي. ومن هنا فإن أحد أسباب خوف المصارف الأجنبية المراسلة من التعامل مع المصارف اللبنانية، هو تحديداً ارتفاع مخاطر تبييض الأموال، لاسيما نتيجة السحوبات والإيداعات النقدية الكبيرة التي تتم بالتوازي مع التحويلات الصادرة والواردة، نتيجة اعتماد التجار على النقد الورقي في تعاملاتهم داخل لبنان.
*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية