تم انتخاب دونالد ترامب رئيساً في عام 2016 على وعد بإعادة التصنيع الأميركي من الصين. لكن حتى قبل تفشي جائحة فيروس كورونا، لم ينجح التوسع الاقتصادي لترامب -الذي أصبح الأطول على الإطلاق- في استعادة جميع وظائف التصنيع التي فُقدت خلال ركود عام 2008. لا يتعلق الأمر فقط باستيلاء الأتمتة على الوظائف من العمال البشريين. لقد انخفض الإنتاج الصناعي في عام 2019، ولم يصل أبداً إلى ذروته ما قبل عام 2008. لم تؤد حرب ترامب التجارية إلى عدم إنعاش التصنيع في الولايات المتحدة فحسب، بل لم تفعل شيئاً أيضاً لنقل سلاسل التوريد العالمية من شرق آسيا.
كما تراجعت صادرات الولايات المتحدة عالية التقنية في عهد ترامب، بينما ارتفعت صادرات الصين. قد وضحت جهود ترامب غير الفعالة شيئاً واحداً واضحاً تماماً: إذا كانت الصناعات التحويلية ذات القيمة العالية ووظائف المصانع ستعود إلى الولايات المتحدة، فإن الأمر سيحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من الخطاب العدائي وفرض تعريفات جمركية. لكن بعض المفكرين من اليمين السياسي مستعدون لاتخاذ خطوة أكثر جدية تجاه هذه الفكرة. جمعت مبادرة «إعادة التصنيع والخدمات مرة أخرى إلى الولايات المتحدة» (إعادة التوطين)، وهي خطة سياسية أصدرها مركز الأبحاث الجديد «أميركان كومباس»، عدداً من الأفكار الكبيرة الهادفة إلى جعل الولايات المتحدة قوة تصنيعية مرة أخرى. إن التخلي عن الإيمان بأهمية التجارة الحرة واعتناق سياسة صناعية يعد قفزة هائلة لليمين السياسي. إنه موقف نموذجي أكثر بالنسبة للمفكرين ذوي الميول اليسارية المتوافقة مع العمل المنظم. يقدم مؤلفو مبادرة إعادة التوطين عدداً من المبررات لهذا التحول الجذري. فهم أولا يستشهدون بالمخاوف التقليدية للأمن القومي الأميركي والقوة الناعمة. كما يشيرون إلى المرونة في مواجهة صدمات سلسلة التوريد العالمية باعتبارها نقطة ضعف في نظام التجارة الحرة التقليدي والتي اتضحت بشكل صارخ من خلال عمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا.
وأخيراً، يؤكدون أن إعادة سلاسل التوريد داخل الولايات المتحدة مفيدة للإنتاجية والابتكار. هذان التأكيدان الأخيران هما الأكثر إثارةً للجدل. وتستند الحالة التقليدية للتجارة الحرة على فكرة أنه عندما تقسم البلدان الإنتاج وفقاً لما يتخصص فيه كل بلد، تتحسن الإنتاجية.
وعلى سبيل المثال، يعتقد الاقتصاديون عادة أن الجمع بين العمالة الرخيصة في البلدان النامية ورأس المال والمعرفة لدى الدول المتقدمة يعود بالفائدة على كليهما. لكن البعض يعترضون، بحجة أن البلدان التي لديها مجموعة أكبر من الأنشطة الاقتصادية تنمو بشكل أسرع، ربما بسبب تدفق المعرفة والمواهب بين شركات المنبع والمصب في سلسلة التوريد. يدعي مؤيدو التجارة الحرة أيضاً أن سلاسل التوريد الدولية تعزز الابتكار، بحجة أن الشركات المعرَّضة للمنافسة العالمية مجبرة على الابتكار أكثر من أجل مواكبة ذلك. الأدلة على هذا الاقتراح مختلطة.
تزعم بعض الصحف أن المنافسة على الواردات من الصين تجعل الشركات في البلدان المتقدمة أكثر ابتكاراً، بينما يزعم البعض الآخر عكس ذلك تماماً. ونظراً لصعوبة فك التشابك بين الأسباب والنتائج في أنماط التجارة العالمية، فمن غير المرجح أن يتم حل أي من الخلافين في أي وقت قريب. وبالتالي، فإن مبادرة إعادة التوطين تمثل مقامرة كبيرة؛ فهي تنطوي على إعادة ترتيب شاملة للعلاقة بين الحكومة والصناعة في الولايات المتحدة، مما يتعارض مع عقود من المعتقدات القديمة.
لا توصي مبادرة إعادة التوطين بمجرد السياسات التقليدية مثل تدريب القوى العاملة والحوافز الضريبية، ولكن بخطوات جريئة وجديدة مثل متطلبات المحتوى المحلي للمصنعين، والتعديلات الرئيسية على منظمة التجارة العالمية واتحادات أبحاث الشركات التي ترعاها الحكومة. بدلا من مجرد توفير المدخلات لجعل الصناعة الأميركية أكثر قدرة على المنافسة، فهذه سياسات من شأنها إشراك الحكومة بشكل كبير في إخبار الشركات الخاصة بما يجب إنتاجه ومكان إنتاجه. كانت آخر مرة حدثت فيها إعادة توجيه كهذه خلال الحرب العالمية الثانية.
وعلاوة على ذلك، هناك احتمال كبير لأن تفشل حتى هذه الجهود كما كان الحال مع حرب ترامب التجارية. ومن الصعب للغاية التغلب على قوى التكتل الاقتصادي؛ فشرق آسيا ليس فقط موطناً لموارد رأس المال الكبيرة في الصين والقوى العاملة الرخيصة في جنوب شرق آسيا، ولكن أيضاً لشركات التكنولوجيا الفائقة في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية. إلى جانب كونه مستودعاً عميقا للمعرفة الفنية ورأس المال والعمالة. كما تفتخر المنطقة أيضاً بتوفرها على قاعدة استهلاكية هائلة تتفوق على قاعدة الولايات المتحدة. ويخلق هذا التكتل الاقتصادي العملاق قوَّتَه الجاذبية الخاصة، مما يجعل قارةَ أميركا الشماليةَ قليلةَ السكان تكافح لكي تحل محله. في مواجهة تلك القوى الأساسية الهائلة، ليس من الغريب أن يكون معظم المحللين متشككين للغاية في فكرة إعادة توطين التصنيع في الولايات المتحدة. لكن مع ذلك، من الجيد أن يتم طرح أفكار مثل مبادرة إعادة التوطين، لأن التمسك بالنظام الحالي يجب أن يُنظر إليه على أنه مقامرة. مع ركود متوسط الدخل إلى حد كبير، وارتفاع عدم المساواة، وتباطؤ نمو الإنتاجية، وتحول الصناعات عالية التقنية بعيداً عن الولايات المتحدة، يجب أيضاً اعتبار عدم القيام بأي شيء محفوفاً بالخطر.
*نوح سميث
*محلل اقتصادي أميركي، أستاذ المالية سابقاً بجامعة ستوني بروك في نيويورك
ينشر بتريب خاص مع «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوزسيرفس»