موجة التصعيد التي أقدم عليها تنظيم «داعش» في العراق أخيراً، واستهدف فيها قوى الأمن الاتحادية وقوات «البيشمركة» الكردية على السواء، لم تقف فقط عند حدّ تقليده المتّبع بعدم اعتبار شهر رمضان بمثابة هدنة، بل كشفت عملياته نقاطاً هشّةً تُوجد فيها ثُغر أمنية في المناطق العراقية المتنازع عليها بين حكومتَي بغداد وأربيل. ليس للتنظيم اهتمام مباشر بتفاصيل هذا النزاع إلا بمقدار الاستفادة منه لمواصلة الإعلان عن وجوده واستمرار قوّته، رغم الضربات التي تعرّض لها ولا يزال. أما أهدافه وأهداف موظّفيه في هذه الفترة فهي ملتبسة، إذ لم تعد لديه القدرة على إعادة إنشاء «دولته» المزعومة. غير أن تزامن ضرباته مع هجمات الميليشيات الموالية لإيران على قواعد تؤوي عسكريين أو متعاقدين أميركيين، بات يلفت المراقبين المحليين إلى تداخل بين النشاطَين وأهدافهما، كونهما يشكّلان عملياً المخاطر ذاتها، وهذا ما يُفهم من تقرير جديد لوزارة الدفاع الأميركية.
لكن المفارقة تكمن في أمرين. فمن جهة ترمي الميليشيات إلى تذكير الأميركيين بمواصلتها العمل لدفعهم إلى سحب قواتهم من العراق، كذلك حثّ حكومة بغداد على تنفيذ قرار اتخذه مجلس النواب في هذا الشأن وتبنّته الحكومة السابقة. ومن جهة أخرى لا تزال محاربة الإرهاب إحدى أهم ركائز السياسة الأميركية في المنطقة، وأحد أهم بنود الحوار الاستراتيجي العراقي - الأميركي، إذ يقرّ الطرفان بأن التهديد الذي يمثّله «داعش» يستوجب استمرار الحضور الأميركي، بطلب من بغداد.
ليس هناك خلاف بين الدولتين على مبدأ الانسحاب الأميركي، فواشنطن تسعى إليه، وبغداد لا تمانعه وتحاول من خلال الحوار ترسيخ أسس لعلاقة ثنائية ثابتة في مختلف المجالات، ولا سيما في التعاون العسكري تسليحاً وتدريباً، كما في دعم انهاض الاقتصاد ليكون مساهماً في توطيد الأمن. لكن ثمة خلافاً داخل المكوّنات العراقية وفي ما بينها حول مغادرة القوات الأجنبية، إذ يُخشى أن يؤدّي أي انسحاب أميركي كامل وقسري إلى خلل في التوازن الداخلي، أو أن ينعكس سلباً على الاقتصاد. فالسُنّة يرون أنه سيضاعف تغوّل الميليشيات، والأكراد يشاركون هذا التقدير، كما يتطلعون إلى تسوية قضية المناطق المتنازع عليها بوجود الاميركيين وضمانهم.
غير أن حكومة بغداد تتعامل مع مسألة الانسحاب على أنه إرادة أميركية أكثر مما هو استجابة لضغط الميليشيات، ثم أنه فرصة لتعزيز مكانة القوات المسلحة بقطاعاتها كافةً، ليس فقط للحفاظ على الأمن، بل أيضاً لاستكمال بناء الدولة وبسط سلطتها. في الوقت نفسه تبدو بغداد موقنة بأن أي انسحاب أميركي لا بدّ أن يخفف من حدة الصراع الدولي على أرض العراق، لكنه سيترك منظومة ردع دفاعي كافية لهدفين محدّدين: مواصلة أضعاف المجموعات الإرهابية والحدّ من هجماتها، وضمان دعم الجيش والأجهزة في مواجهة استقواء الميليشيات عليه، خصوصاً أن هجماتها تركّز القواعد التي يوجد فيها أيضاً سلاح الجو العراقي، ومنها قاعدة بلد في محافظة صلاح الدين.
يبقى أن الأهم في تقرير البنتاجون تسليطه الضوء على أن تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية واستمرار الفساد لا يساعدان في استثمار أي تحسّن ولو نسبي في المجال الأمني. فبعد ضرب «داعش» وتحويله إلى فلول، كان مطلوباً احتواء الميليشيات لتكون أي قوة مسلحة في كنف الدولة، وحنى الآن لم يتحقق هذا الهدف إلا جزئياً.