كان للعقيد القذافي قرارات صائبة، من بينها دوره في تأسيس «تجمع دول الساحل والصحراء» عام 1998. وعلى الرغم أن هذا التجمع لم ينجح يوماً في البروز ككتلة إقليمية فاعلة، إلا أن فكرته كانت سديدة، والحاجة إليه اليوم أقوى من أي وقت مضى.
لا يخفى على أحد أن إقليمي الساحل والصحراء المعنيين هنا هما ما كان يطلق عليه مؤرخو العصور الوسطى منطقة «الغرب الإسلامي»، وهي تشمل المجال الممتد من جنوب درعة وتوات (في المغرب والجزائر اليوم) إلى دارفور بالسودان، مروراً بحواضر العلم والتجارة في موريتانيا الحالية وفي ما سمي أوانها بالبلاد السودانية على نهري النيجر وتشاد، ويشمل هذا الإقليم ممالك الهوسا في شمال نيجريا والكاميرون.
لقد كانت هذه المنطقة في الماضي فضاءً مندمجاً، متصل الحلقات، يتأسس على قاعدة اقتصادية مشتركة صلبة أساسها تجارة الملح والذهب والصمغ، كما قامت فيها إمبراطوريات ودول كبرى وحدتها كلياً أو جزئياً، من أهمها إمبراطورية مالي ودولة المرابطين ودولة السونغاي ومملكة سوكوتو...
والواقع أن العامل الإثني أو العرقي لم يكن عائقاً عملياً في وحدة واندمج هذا المجال الواسع الذي تنتمي إليه مجموعات شتى، من أبرزها المكونات الصنهاجية والعربية والفلانية والسونغانية والهوسوية... بل إن الأدبيات الإثنوغرافية الاستعمارية هي التي بلورت التصنيفات الأولى التي استندت إليها لاحقاً الهويات القومية في هذه البلدان، ومن أبرزها أعمال الوالي الاستعماري الفرنسي الجنرال لويس فيدرب الذي كتب دراسات كثيرة حول التركيبة الاجتماعية في منطقة الساحل، كما اصطدم بالدول «الجهادية» التي قامت في المنطقة للوقوف ضد خطر الاحتلال الأوروبي.
لقد أدركت الاستراتيجيات الاستعمارية الوحدة الإقليمية والبشرية للمجال الساحلي الصحراوي بما ترجمته عدة مبادرات من آخرها المشروع الذي طرحه الجنرال ديجول عام 1957 لتشكيل منظمة للأقاليم الصحراوية. ومع أن المشروع فشل لأسباب عدة، أبرزها تأثير الموضوع الجزائري الذي كان مطروحا بحدة أوانها، إلا أن إهمال هذه المعطيات الإقليمية الموضوعية كان له أسوأ الانعكاس على استقرار وامن المنطقة لاحقاً.
هكذا ندرك اليوم أن المجال الساحلي الصحراوي المتداخل جيوسياسياً مع منطقتي المغرب العربي وأفريقيا الغربية أصبح فضاء من الأزمات الممتدة التي تتركز اليوم في المنطقة الحدودية المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتتجاوزها إلى شمال نيجيريا حيث تنشط عصابات بوكو حرام التي يصل خطرها تشاد والكاميرون، في حين لا يزال جرح دارفور غائراً رغم محاولات التهدئة الأخيرة.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن إقليم فزان الليبي الذي ينتمي إلى المجال الساحلي الصحراوي من حيث المحددات الطبيعية والبشرية، هو المصدر الأول للمخاطر المحدقة بالمنطقة في غياب معادلة سياسية مستقرة في ليبيا.
ومن الجلي أن السياسات الأمنية العسكرية التي اعتمدتها الدول الكبرى وبصفة خاصة فرنسا والولايات المتحدة الأميركية لم تجد نفعاً في احتواء مخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة التي تسلك مسالك التبادل التجاري الوسيطة وتتمنع على مراقبة وضبط الحكومات الوطنية الضعيفة.
ومن هنا، يصبح من الضروري إحياء مشروع «التجمع الإقليمي لدول الساحل والصحراء»، وفق رؤية استراتيجية جديدة تضعها دول المغرب العربي وغرب أفريقيا المنتمية إلى هذا الفضاء الحيوي، بدعم دولي قوي، وصولاً إلى إعادة بناء الهندسة السياسية لهذا الإقليم وفق توازناته البشرية والجغرافية الموضوعية التي انتهكتها الاستراتيجيات الاستعمارية التقليدية.
وكما هو معروف، تستفيد الحركات المتطرفة الراديكالية من حالات الفراغ السياسي والاضطراب الاجتماعي في الدول الساحلية، بما هو ظاهر اليوم في مناطق التوتر الثلاث الكبرى في الإقليم: شمال مالي وإقليم دارفور وجنوب ليبيا.
والخطوة الأولى في هذا الباب هي إعادة تنشيط منظمة اتحاد المغرب العربي بتوسيعها، لتشمل الدول المطلة على الصحراء في الإقليم الساحلي الواسع، حتى ترجع الصحراء كما كانت جسر التواصل بين شمال افريقيا وما بعده جنوباً. كان المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل يقول، إن الصحراء هي «المتوسط الآخر»، بما يعني أنها ليست عائقا ولا حاجزاً، بل هي الجذر الذي نشأت منه حضارات المنطقة في تفاعلها الحي ووحدتها الجيو سياسية الصلبة.
* أكاديمي موريتاني