تعكس مطالبة الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الجيش البورمي (ميانمار) إعادة الديمقراطية والتوقف عن ممارسة العنف ضد المواطنين إدراكا واقعيا لحقائق الجغرافيا وأولويتها؛ جاء ذلك في ختام اجتماع قادة دول جنوب شرق آسيا والمحادثات التي جرت مع المجلس العسكري البورمي (ميانمار). فالدول تصنعها الجغرافيا، وليس في مقدور الأيديولوجيات القومية والوطنية سوى تنظيم العلاقة بين الإنسان والمكان، لكنها حين تمعن في التعصب تتحول إلى عبء على نفسها وعلى الدول المجاورة أيضا، والعالم اليوم يواجه صعود الهويات التاريخية والفرعية بالإدارة المتسامحة والمرنة مع التنوع والاختلاف، وأما الأمم التي استجابت لإغواء التاريخ، فقد سقطت في صراعات داخلية دامية ومدمرة، وقد ناهز عدد القتلى في بورما ألف مواطن منذ الانقلاب العسكري في فبراير الماضي، وأما قضية التمييز والاضطهاد ضد الروهينغا البورميين فقد تحولت إلى أزمة وطنية وإقليمية بل إن بورما بنزعتها القومية وضعت نفسها في مواجهة العالم.
طالبت منظمة آسيان (دول جنوب شرق آسيا، وهي إندونيسيا والفلبين وماليزيا وتايلند وسنغافورة ولاوس) الجيش البورمي بالتوقف عن استخدام العنف، وامتناع جميع الأطراف في الوقت ذاته عن ممارسة العنف، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وتسهيل الحوار والعمل الإقليمي والدولي لأجل الحوار، وفي المقابل تسعى دول الجوار كما العالم في مساعدة بورما على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وبناء الاستقرار والسلام فيها.
لقد أدخل التعصب القومي أو ما يسميه المفكر الأنثروبولوجي أرغون أبادرواي «الخوف من الأعداد الصغيرة»، كثيراً من أمم العالم في حالة عنف هستيري بدلاً من توظيف التنوع والتسامح، الذي صعد كرأسمال اجتماعي اقتصادي. ولسوء الحظ فإن العولمة تنشئ تحديات تكاد تكون تلقائية، وأما فرصها ومنافعها فإنها في حاجة إلى وعي عميق بالتغير وضرورات الاستجابة والتكيف الإيجابي.
دخلت بورما في مرحلة من حكم الجيش بعد حالة الصراع والاحتراب الداخلي التي استمرت منذ الاستقلال في العام 1948 حتى عام 1962، ثم جرت انتخابات في العام 2010 أنهت ظاهرياً الحكم العسكري، لكن الجيش ظل يدير السياسة العامة ويتدخل فيها، وصعدت صراعات قومية وإثنية عدة في البلاد، كان أهمها الصراع مع أكبر الأقليات وهي المسلمون الروهينغا الذي يشكلون أغلبية سكان إقليم أراكان المحاذي لبنجلاديش، ولكن هناك أيضا الصينيون والتيبت والهندوس، وتوجد أقلية مسيحية تتكون من حوالي نصف مليون مواطن بورمي.
تحتاج القيادة السياسية في بورما للإدراك أنها متصلة جغرافياً وتاريخياً بالهند والصين وبنجلاديش، وأنها جزء من إقليم جنوب شرق آسيا، وأن الأغلبية البوذية وإن كانت تشكل أكثر من 80 بالمائة من السكان (حوالي 55 مليون نسمة) فإنها ليس في مقدورها أن تلغي الآخرين، وليس في مقدروها شأن كل دول العالم أن تعزل نفسها عن العالم، فالجغرافيا أقوى من التاريخ، والوعي بالمكان أولى من الوعي بالمشاعر الوطنية والأيديولوجية، بل إن الهوية نفسها برغم الحضور التاريخي فيها ليست مشاعر تلقائية أو مستقلة بذاتها لكنها عمليات وعي مسبق، وتخيل وطني ونخبوي مجهد ودؤوب لما تحب الأمم أن تكون عليه وما يجب أن تفعله لتكون ما تحب. ولأجل أن يساعد العالم والدول المجاورة بورما يجب أن تساعد نفسها وتجري عمليات مصالحة وحوار طويلة وتسويات واقعية لأجل المشاركة والمواطنة الحقيقية، وقد يكون في مقدور النخب الأيديولوجية أن تجتذب تأييد جماهيري مدفوع بالشعور بالتفوق أو التميز او رفض الآخر، لكن جائحة كورونا أثبتت عجز هذه الأيديولوجيات الجذابة عن إدارة شؤون البلاد ومواجهة الكوارث والتحديات.