منذ لحظة الإعلان عن الدعوة إلى الانتخابات الفلسطينية، منتصف يناير الماضي، كان معروفاً بل قيل إن إجراءها في القدس الشرقية عُقدة يمكن أن تؤجل هذه الانتخابات أو تلغيها، لأن القرار مرتبط بإسرائيل بموجب بروتوكول ملحق باتفاق أوسلو. قيل أيضاً، وكان معروفاً إلى حدٍّ كبير، إن إسرائيل لن توافق، خلافاً لما فعلته مرّات ثلاثاً في السابق. ثمة أسباب كثيرة في السياق، وذُكر منها مثلاً احتمال توكيد صعود شعبية حركة «حماس» والتعقيد المتوقّع في حال فوزها ثانيةً، بدليل اعتقال إسرائيل للعديد من المرشحين «الحمساويين». ومنها كذلك قبول ترشيح القيادي «الفتحاوي» مروان البرغوثي، رغم أنه معتقل ومحكومٌ بعشرات السنين سجناً.
غير أن كلّ الأسباب لا تبرّر إحباط انتخابات يلحّ المجتمع الفلسطيني أولاً، كذلك المجتمع الدولي، على وجوب عقدها، بغية تجديد الشرعية وإتاحة الفرصة لضخّ دماء ودينامية جديدتين في إدارة الأراضي الفلسطينية، بل إن المجتمعَين المذكورَين كانا ولا يزالان يطالبان بهذا الاقتراع تحقيقاً للهدف الصعب: إنهاء الانقسام الفلسطيني. لكن إسرائيل لم تبدُ معنية بإنهاء الانقسام، مثلما أنها لم تعد معنيّة بحل النزاع مع الفلسطينيين، فالمراقبون سجّلوا أخيراً أن أيّاً من المرشّحين (غير العرب) للانتخابات الإسرائيلية الرابعة لم يقل كلمة واحدة عن المسألة الفلسطينية، تأكيداً لعدم وجودها على أجندتهم. ثم إن واقع الأزمة السياسية المستمرّة منذ ثلاثة أعوام وصعوبة تشكيل ائتلاف حكومي، وعدم وضوح خيارات الإدارة الأميركية الجديدة، دفعت الإسرائيليين إلى «تمييع» الاستحقاق الانتخابي الفلسطيني من دون أن يُؤخذ عليهم أي موقف رسمي يدفع إلى تأجيله.
كان هناك اعتماد على ضغط دولي كي توافق إسرائيل على تصويت القدس الشرقية، لكن مراسلات ممثل الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لم تحصد سوى التجاهل والصمت الإسرائيليين. إذاً، كانت هذه الإشكالية ماثلة قبل تحديد مواعيد الاقتراع وبعده، ومن الطبيعي أن يثير تأجيله احتجاجاتٍ وغضباً وخيبة أمل، وبما أنه كان محوراً أساسياً في «حوار الفصائل» المتنقّل بين بيروت وإسطنبول والقاهرة، فقد كان من واجب هذه «الفصائل» أن تبلور موقفاً موحّداً من موضوع القدس لأنه يخصّها جميعاً، فلا يتخذه أيٌّ منها ذريعة للتأجيل، ولا يُتّهم أيٌّ منها بأنه مستعدّ للتفريط بالقدس.
بمعزلٍ عن الخلافات السياسية والفصائلية، لو تجاوز الفلسطينيون عقبة القدس لكانوا اعترفوا ضمنيّاً بأنها انتُزعت منهم بموجب «صفقة القرن» التي يرفضونها جميعاً. وبمعزلٍ عن أي اعتبارات جانبية، لو وافقت إسرائيل على انتخابات في القدس الشرقية لكانت اعترفت عملياً بأن هذا الجزء من «عاصمتها الموحّدة» لا يزال موضع نزاع وتفاوض، كما يقول القانون الدولي. هذا هو الواقع بكل تعقيداته وصعوبته، خصوصاً عند الفلسطينيين الذين غدوا الآن بلا خيارات واضحة لإنهاء عقدٍ ونيفٍ من دون انتخابات، إذ إن تأجيلها يبدو بمثابة إلغاء مفتوح وإدامة للإحباط الداخلي، ومع أن إجراءها وسط الانقسام بين الضفة والقطاع، لم يكن لينهي هذا الانقسام بل يكرّس مخرجاته الشاذة، فإنه كان ليفتح نافذة على تغيير ينشده الجميع. يبقى أن ملء الفراغ الانتخابي بمزيد من التلاوم والصراعات ليس خياراً أيضاً.