رمضان شهر الارتقاء الروحي بالإنسان، وفرصة سانحة لخلوة مع الذات لمراجعة الماضي والبحث في المستقبل، والتأمل في مجريات أحداث الحياة وأولوياتها، لكن لماذا تاهت البشرية في هذا الأمر؟
من يطلع على ما يُكتب حول عمر الإنسان وبالذات في مواد علم نفس النمو يجد أن مسيرة الإنسان تُلخص في مراحل أهمها مرحلة الرضاعة ثم الطفولة فالمراهقة والشباب والرشد ثم الشيخوخة، إلى ماذا تقودنا هذه المعادلة في حياة الإنسان؟ ولماذا أسهمت مثل هذه النظريات في قصر النظر لدى البعض؟
هذه المعادلة تقول للإنسان إن حياتك في الدنيا سريعة جداً، فهي تمر بأطوار مختلفة، لكنك إنْ حذفت مرحلة الطفولة والشيخوخة ستبقى لك فترة قصيرة جداً للاستمتاع بحياتك، هذا الأمر قاد الشباب وبالذات في المجتمعات التي لا توجد لديها قيم روحية إلى الإسراف في الملذات محاولين جهدهم للوصول إلى غاية مطلبهم، وهذا الأمر دفعهم إلى العديد من الانحرافات لإشباع الشهوات، فمن تعاطي للمسكرات والمخدرات إلى حياة الليل بكل ما تحمله هذه الكلمة من احتمالات، وللوصول إلى ذلك، تجد الإنسان يلهث للحصول على المزيد من المال دون أن يسأل نفسه عن مصدر ثروته، فبمقدار الثراء يستطيع هذا الإنسان إشباع نزواته وتحقيق أمنياته، لذلك لا مانع لدى هذا الإنسان من الظلم الذي يتمكن من تبريره عن طريق التلاعب بالقوانين كي يحقق غاياته، ولو كانت بدمار غيره، والسبب أنه في عقله اللاواعي غرس مفهوم قصر عمر الإنسان وأهميته الاستمتاع بحياته وشعارهم «مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ».
المراحل الحقيقية لحياة الإنسان والتي ستغير من فلسفة حياته وطموحاته وتضبط تصرفاته هي الرضاعة ثم الطفولة فالمراهقة والشباب والرشد ثم الشيخوخة فحياة البرزخ ثم الدار الآخرة. تأمل أنني أضفت مرحلتين لحياة الإنسان هما البرزخ والحياة الآخرة، لك أن تتخيل كيف سيعيد الإنسان ترتيب أولوياته لو آمن بقوله تعالى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ»، أي الحياة الباقية التي لا نهاية لها. لا شك أن هذا الأمر سيجعله يراجع سجل حياته كي يتبرأ من كل ما يعكر صفو الحياة الباقية، وسيعمل جاهداً كي تكون الحياة القصيرة في الدنيا رحلة للنجاح في حياة الخلود، سيتردد هذا الإنسان كثيراً عن ظلم غيره أو سرقة ماله أو الاعتداء عليه، لأنه يخاف لحظة سجّلها القرآن بقوله تعالى: «أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»، هذه اللحظة هي التي تجعل المؤمن سعيداً في حياته رغم كل تحدياتها، لا توجد رهبنة في هذا الدين، فمن سماته تدريب الإنسان على التوازن بين متطلبات الدنيا وحياته في الآخرة، وهذه نعمة تكاد تكون خافية عن كثير من الناس فقد تكونت عبر الزمن قناعات لدى البعض أنه إنْ أراد الدنيا عليه الابتعاد عن الدين، وإنْ أراد التدين، فهذا يقتضي حرمان نفسه من التمتع بلذات الحياة، وبين كلا الطرفين تكمن الحكمة التي نلخصها في كلمة الوسطية.
* أكاديمي إماراتي