كتبتُ هنا، الأسبوع الماضي، عن الأستاذ هانس كينغ ونظريته في أخلاقيات الأديان. وقد درستُ عنده لبعض الوقت عام 1973 بجامعة توبنغن بألمانيا الاتحادية. توفّي هانس كينغ في 5/4/2021 في توبنغن. وفي اليوم نفسه توفي عالم اليمنيات البارز يوسف عبد الله الشيباني في منفاه بالقاهرة. قابلتُ يوسف عبد الله في جامعة توبنغن أيضاً، وما اجتمعنا في دروس الأستاذ كينغ، بل في دروس اللغة السبئية (العربية الجنوبية) عند أستاذ اللغات السامية المعروف غوستاف ميللر. ومنذ الأيام الأولى صرنا أصدقاء؛ فيوسف ما كان يملك سحر البروز العلمي وحسْب، بل يملك إلى ذلك شخصيةً قياديةً واثقةً من نفسها، وخططاً واسعةً للعمل الجامعي في مجال الآثار والمتاحف، عَرف عنها أيضاً زملاؤه في الدراسة بالجامعة الأميركية ببيروت في النصف الثاني من الستينيات.
وفيما أذكر فإنّ يوسف عبدالله بعد حصوله على الدكتوراه عام 1975 غادر إلى صنعاء، واستطاع خلال ثلاثة عقود تأسيس مدرسة بجامعتها للدراسات اليمنية القديمة، إذ تخرج على يديه عشرات الطلبة والطالبات، كما صار مديراً للآثار، وأنشأ متحفاً صغيراً للآثار (والمومياءات) بقسم الآثار بكلية الآداب، وأسهم مع الشيوخ والزملاء في اقتناء وحفظ آلاف المخطوطات من المجموعات الخاصة. وهذا إلى نشر عشرات الكتب والدراسات في النقوش اليمنية (بعضها من اكتشافه)، وأهمها «المعجم السبئي» الذي تعاون في تأليفه مع أستاذه ميللر.
حضرتُ أول المؤتمرات التي نظّمها يوسف عبد الله عام 1980 عن لسان اليمن «أبو محمد الهمداني» صاحب كتابي «صفة جزيرة العرب» و«الإكليل». ومنذ ذلك الحين رغب إليّ يوسف ما دمتُ مهتماً بتراث اليمن الوسيط بالذهاب للتدريس هناك، وبخاصةٍ أنّ الحرب الأهلية كانت مشتعلةً بلبنان والجامعة اللبنانية شبه معطَّلة. وبدعوةٍ من الأستاذ عبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء ذهبتُ بالفعل وسكنت بمساكن الجامعة بجانب الأستاذ يوسف (1988-1991). وكانت سنوات قليلة لكنها زاهرة باليمنيين الذين تعرفت عليهم وصاروا أصدقاء، وبالمخطوطات الفقهية والتاريخية والكلامية التي ما أزال أنتفع بها حتى اليوم.
ما كان يوسف حزبياً، ولا كان حتّى بين نقّاد الرئيس علي عبد الله صالح. وكان يعتبر الاستقرار أهمّ منجزات الرئيس. كان يقول: كيف ندرّس أو نكتب أو نربّي طلبتنا وسط الاضطرابات الثورية سواء أكانت على طريقة القوميين أو الإسلاميين. وما كان التحالف القبلي الصحوي في «حزب الإصلاح» يعجبه. وكنت خائفاً أكثر منه من الاحتقان الذي أحسسته في المناطق الزيدية، والتي دأبْتُ على زيارتها طوال التسعينيات وحتى عام 2004.
كثيرٌ من سياسيي وأكاديميي اليمن مضوا بعد الانقلاب الحوثي عام 2014 إلى عمّان، ثم توزعوا في المنافي. وكان نصيب صديقي يوسف الذهاب إلى القاهرة. وهناك رأيتُه عدة مرات. وكان كئيباً مهموماً بقضايا العيش مع أسرته الصغيرة. وقال إنه لم يعد يكتب وبالكاد يقرأ. وآخِر ما تلقيتُ منه قبل بضعة أشهر رسالة على التلفون تُعلمه فيها إدارة جامعة صنعاء أنها «استولت» على شقته بمساكن الجامعة بسبب غيبته الطويلة! وأجبته: يا أخ يوسف ليس العتب على الحوثيين، بل العتب علينا نحن المثقفين الذين لم نستطع أن يؤوي أحدنا الآخر أو يساعده كما يجب!
صدمني المُصاب بيوسف الصديق والأستاذ البارز. ولا شك أنه صدم الكثيرين من اليمنيين ومن العرب ومن الألمان والبريطانيين والفرنسيين، والذين اجتذبهم يوسف وأشركهم في دراسات اليمن وآثاره. وتعازيّ على وجه الخصوص للأستاذ والصديق حسين العمري الذي ما كان يوسف يفارقه، وهو الصامد بصنعاء!
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية