ما يثير قلقي هو الطريقة التي تبتعد فيها السلطة الفلسطينية عن النهج الديمقراطي، بطريقة تلحق الضرر بالقضية الفلسطينية. وما يبعث على القلق أيضاً غياب الرؤية الاستراتيجية ما جعل الفلسطينيين يشعرون باليأس من مستقبلهم. وأجد في نفسي تعاطفاً مع العبء الهائل المتمثل في قيادة «سلطة» لديها القليل للغاية من السلطة. فالسلطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية توفير الرواتب لأسر عشرات الآلاف من الموظفين المدنيين الفلسطينيين وتوفير التمويل لطائفة من الخدمات الأساسية. ويتعين عليها القيام بهذا من دون أساس اقتصادي مأمون.
ومن المؤكد أنه ليس خطأ عباس أن أصبحت السلطة الفلسطينية معتمدة على السخاء الدولي وعلى نزوات الاحتلال. فالسياسات الإسرائيلية أدت إلى حدوث اختناق نموالاقتصاد الفلسطيني، ومنعت الفلسطينيين من إمكانية الدخول إلى أكثر من 80% من أراضي الضفة الغربية. كما قيدت إسرائيل حركتهم في إطار أجزاء تتقلص دوماً من الأراضي التي تركتها لهم. حتى في المناطق الخاضعة للسيطرة الاسمية للسلطة الفلسطينية، تتمتع قوات الاحتلال الإسرائيلية بحرية الاقتحام واعتقال الفلسطينيين حسبما تشاء.
لكن في مواجهة كل هذا، كان أفضل ما استطاع عباس تقديمه هو مطالبات من «المجتمع الدولي» بأن يعترف بـ «المشروعية»، وأن تكون هناك عودة إلى «عملية سلام» قد تؤدي إلى تنفيذ «حل الدولتين»، وهي أمور لم تعد ذات صلة في ظل واقع سياسة الآبارتايد التي تمارسها إسرائيل. وما زاد الطين بلة أن السلطة الفلسطينية أصبحت أقل تسامحاً مع المعارضين لها من الداخل ومع قيادة صاعدة للمجتمع المدني تسعى إلى إتباع وسائل مبتكرة غير عنيفة لتحدي الاحتلال. ونتيجة لهذا، تكلست حركة فتح وأصبحت بعيدة عن الكفاح الشعبي، بعدما كانت، ذات يوم، القوة المهيمنة على الحركة الوطنية الفلسطينية. ولم تعد «فتح» على قيد الحياة إلا بفضل نظام من الرعاية الأبوية.
ومازالت استطلاعات الرأي تشير إلى أن« فتح» تتمتع بدعم أكبر من ذاك الذي تتمتع به منافستها الرئيسة، حركة «حماس». وهذا مستوى منخفض للغاية. فاستطلاعاتنا للرأي تظهر أن «حماس» فقدت دعماً كبيراً بسبب حكمها السلطوي والنهج المضلل الذي اتبعته في «المقاومة» والذي صب مراراً في مصلحة إسرائيل. وتشير استطلاعاتنا للرأي أيضاً أن الفلسطينيين يريدون بشدة الاتحاد. لكن الاتحاد بين «فتح» و«حماس» في حالتهم الحالية لن يؤدي إلا إلى ترسيخ الوضع الراهن. والخطر على الفلسطينيين هو أنه إذا حافظ محمود عباس على سيطرته المشددة على «فتح» وخاض السباق ضد قوائم انتخابية لزعماء منافسين، فستكون هذه الانتخابات تكراراً، إلى حد كبير، لكارثة 2006.
والاعتقاد السائد هو أن «حماس» فازت في عام 2006 لأن الناخبين رفضوا فساد السلطة الفلسطينية التي تتزعمها «فتح». وهذا ببساطة ليس صحيحاً. فقد أوضحت استطلاعاتنا للرأي أن الناخبين كانوا يشعرون بأن كلا الطرفين كانا سواء في الفساد. وكان هناك سببان لتحقيق «حماس» الفوز وهو انقسام «فتح» واعتقاد الناخبين أنه حان وقت إعطاء الطرف الآخر فرصة بعد عدم تحقق تقدم نحو السلام. فحين طرحنا على الفلسطينيين السؤال التالي: «إذا كنت تعتقد أن تحقيق السلام ممكن، فلمن تصوت؟»، أجاب ثلاثة أرباع تقريباً من ناخبي «حماس» أنهم سيتحولون إلى تأييد «فتح». ومربط الفرس أنهم لم يكونوا يعتقدون أن السلام ممكن ولذا صوتوا بطريقة تخلصهم من الذين لم يحققوا توقعاتهم. وكانت النتيجة كارثة. وقد كان على الفائز بالانتخابات الاضطلاع بوظيفتين وهما إدارة السلطة، عن طريق التعامل مع الاحتلال في الأساس، وتقديم القيادة والرؤية للشعب. و«حماس» لم تهتم بتحقيق متطلبات الوظيفة الأولى، ورؤيتها التي سعت إلى تحقيقها تسببت في دمار. وبعد 15 عاماً لدى فتح فرصة ثانية.
فلدى «ناصر القدوة»، المنافس في الانتخابات الفلسطينية المقبلة، مقترحات ذكية وذات بصيرة. ودخول مصطفى البرغوثي السباق خلق حالة من الحماس. وهذا ما يحتاجه الفلسطينيون الآن، ولهذا يتعين على «عباس» رفع قبضته عن الحركة. والبرغوثي والقدوة بمفردهما، ومن خلال انتخابات واحدة، لن يخرجا الفلسطينيين، بمعجزة، من الوهدة التي هم فيها. بل يستطيعان وقف هبوط مستوى الوهدة. فقد قدما الوعود بتغيير في الاستراتيجية ورؤية جديدة واستعادة الأمل. وهذا ما يحتاجه الفلسطينيون تحديداً وهذا أيضاً أكثر ما يخشاه الإسرائيليون.
لقد كنت جزءاً من فريق مراقبة مركز كارتر لمتابعة الانتخابات الفلسطينية لعام 1996 في مخيم دير البلح للاجئين. وحينها كانت طوابير الناخبين طويلة لدرجة أنه تعين علينا إبقاء مراكز الاقتراع مفتوحة لساعات بعد وقت الإغلاق المقرر مسبقاً. فقد كان الناس يشعرون أنهم على مقربة من تحقيق تغير محوري. وبعد مرور 25 عاماً، تبخرت هذه المشاعر. فقد أصبح قيام الدولة أبعد منالاً من أي وقت مضى، ومعظم الناخبين ليسوا متأكدين مما ستحققه هذه الانتخابات بخلاف مجرد إقرار القيادة القديمة نفسها.