كان من آثار ترجمة العلم العربي أن نشأت العلوم الغربية الحديثة الرياضية، الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والنبات والحيوان والمعادن. فتُرجم «الجبر والمقابلة» للخوارزمي و«المناظر» للحسن بن الهيثم. وتُرجمت رسائل ابن حيان في الكيمياء. وظل الطب الإسلامي يُدرس في الغرب حتى القرن السابع عشر بعد ترجمة «الحاوي» للرازي، و«القانون» لابن سينا، و«الكليات» لابن رشد. أعطت الحضارة الإسلامية أساساً جديداً للعلوم الطبيعية، وهو اتفاق نظام العقل ونظام الطبيعة. فاتحدت الأنساق الثلاثة، العقل والوحي والطبيعة. وكان هذا النسق الجديد هو العامل الرئيس وراء النهضة الأوروبية الحديثة بعد تحرير العقل من كل مظاهر الخرافة.
بل إن الإصلاح الديني في الغرب عند مارتن لوثر في القرن الخامس عشر إنما تم بناؤه على نموذج الحضارة العربية الإسلامية، أي أن الكتاب وحده مصدر العقيدة والشريعة، وليس أقوال رجال الدين، وأن لكل مجتهد الحق في التفسير وليس الكنيسة وحدها، وأنه لا واسطة بين العبد والرب. وكلها مبادئ من الحضارة الإسلامية. وقد رغب لوثر في تعلم العربية لمعرفة التراث الإسلامي من أصوله الأولى. وظل هذا النموذج هو أيضاً نموذج الإصلاح اليهودي عند اسبينوزا الذي رفض تسلط الأحبار والدولة الثيوقراطية التي يحكم فيها الملوك باسم الله، ورفض عقيدة «الميثاق الأبدي» الذي يمنح النصر والمعبد دون أن يقابل ذلك عمل صالح أو تقوى وإيمان.
وفي فجر النهضة العربية بدأ الاتصال بالغرب الحديث في «عصر ترجمة» جديد بفضل رواد النهضة في الشام ومصر، سواء العلمية مع شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود، أو الليبرالية مثل الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد، أو الإصلاحية مثل الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين.. والذين بدؤوا ينقلون الثقافة الغربية ويترجمون أمهاتها. وتأسست مدرسة للألسن شبيهة بديوان الحكمة، أيام المأمون. وذاعت مفاهيم التنوير والعقل والحرية والإنسان والطبيعة والعلم والتقدم والعمران.. أي ما أخذه الغرب منا في نهاية نهضتنا وبداية نهضته، ومازال الحوار قائماً، على الرغم من انبهار البعض بالغرب وتبنى ثقافته مما سبب رد فعل فريق آخر رافض للغرب، ومتبنياً للنظرة السلفية. وانقطع الحوار بين الفريقين، ووصل إلى حد الخصام والاقتتال.
وذاعت ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور والشعب والبرلمان والدولة والقومية والاشتراكية والليبرالية.. حتى أصبحت من مكتسبات الثقافة العربية المعاصرة. وتم تعريب العديد من الألفاظ مثل الأيديولوجيا والتكنولوجيا والبرجماتية. عندما يكون حوار الحضارات بين طرفين غير متكافئين، يعطي الطرف لغته للطرف الآخر. وهذا ما تم في فجر النهضة العربية منذ القرن الماضي كما تم من قبل في أوائل النهضة الأوروبية وأيضاً في عصر الترجمة الأول في القرن الثاني الهجري. وقد تم ذلك أيضاً في أوائل عصر النهضة الأوروبية بدخول المصطلحات العربية اللغات الأوروبية القديمة والحديثة. فحوار الحضارات مشروط بصراع القوى بينها ثقافياً وليس عسكرياً. ففي حركة الترجمة الأولى كان العرب فاتحين عسكرياً ومتلقين ثقافياً. وفي عصر الترجمة الثاني كانت مصر فاتحة عسكرياً ومتلقية ثقافياً. وإبان عصر النهضة الأوروبي كان العرب منتصرين عسكرياً في نهاية الحروب الصليبية، وكان الغرب في نكوص، وكانت الثقافة تنتقل من الطرف الأقوى إلى الطرف الضعيف.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة