بدأ العرب مرحلة الشرح والتلخيص، ثم مرحلة التأليف في موضوعات اليونان حتى حدث التراكم الفلسفي الضروري، فبدأ الإبداع الفلسفي الخالص. اغتنت الثقافة العربية الإسلامية إذن بفضل ترجمة الثقافة اليونانية أولاً واللاتينية ثانياً. ولم يجد الحكماء العرب أي غضاضة في استعارة الألفاظ اليونانية للتعبير بها عن المعاني الإسلامية الموروثة كنوع من «حوار الحضارات» بين اللفظ والمعنى، فالله هو المحرك الأول والعلة الأولى وواجب الوجود بلغة أرسطو، وهو مثال المثل والخير الأقصى بلغة سقراط وافلاطون، وهو الواحد بلغة أفلوطين وفيثاغورث. وفي نفس الوقت ترجموا لفظ «آلهة» في النصوص اليونانية «ملائكة» حرصاً على التوحيد. وعُربت كثير من الألفاظ اليونانية، وأصبحت عربية مثل جغرافيا، وهيولي، واسطقس، وموسيقى، وفلسفة. كما دخلت ألفاظ عربية في عصر الترجمة من العربية إلى اللاتينية مثل جبر، وكلام، وشريعة، وصوفي.
وتم إكمال الفلسفة اليونانية وأحكامها والجمع بين آرائها، فإذا نقصت أرسطو إلهيات، بالإضافة إلى المنطق والطبيعيات، نسبت إليه أجزاء من تاسوعات أفلوطين حتى يصبح الفيلسوف الكامل. وإذ اختلف أفلاطون وأرسطو عند الشراح، جمع الفارابي بينهما في «الجمع بين رأيي الحكيمين»، ثم أوضح كليهما في رؤية إسلامية يونانية جامعة في «تحصيل السعادة» و«فلسفة أرسطو طاليس» و«فلسفة أفلاطون».
كانت الفائدة إذن متبادلة بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة اليونانية، حوار على مستوى الندية نحو غاية واحدة وهي الحقيقة التي يمكن الوصول إليها بالعقل والوحي. كانت علوم اليونان علوم الوسائل وعلوم العرب علوم الغايات. والوسائل متاحة للجميع، أي أدوات البحث والتطوير، والغايات كمال النفس واكتشاف الحقيقة.
وفي نهاية العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي) بدأت الترجمة من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية في طليطلة وفي بادو وباليرمو وفي القسطنطينية، حيث تم نقل الفلسفة والعلم العربيين، بل كانت اللغة العربية هي لغة البلاط عند فردريك الثاني، والذي كتب له ابن سبعين «المسائل الصقلية»، رداً على أسئلته الفلسفية التي لم يستطع أحد من الفلاسفة الغربيين الرد عليها حول خلق العالم وخلود النفس.
وكان من آثار ترجمة الفلسفة أن ظهر نموذج فكري جديد في أواخر العصر الوسيط وفي أوائل عصر النهضة يوحد بين الفلسفة والدين، كما هو الحال في علم الكلام الاعتزالي والفلسفة الإسلامية عند الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجة وابن رشد. ونشأ تيار عقلاني جديد مشابه يرفض الحلول والاتحاد والتجسيم والتشبيه في العقائد ويقول بالتنزيه، ويرفض الجبرية والقدرية بل والتوماوية (وهي نوع من الأشعرية اللاتينية) دفاعاً عن حرية الإرادة الإنسانية وخلق الأفعال، وإقامة العقائد المسيحية على أصلي التوحيد والعدل. ونشأ صراع بين الجدليين في القرن الحادي عشر. وظهر «أبيلار» في القرن الثاني عشر ليؤسس النقل على العقل، ويوحد بين الفلسفة والدين في أول حوار بين الأديان في كتابه «حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف»، والفيلسوف هو المسلم.
*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة