ثلاث انتفاضات تعاقبت على اللبنانيين في مدة زمنية لا تتجاوز سبعة عشر عاماً، منذ اندلعت «ثورة الأرز» بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، ثم «حراك تشرين الأول» في أكتوبر 2019، وأخيراً، «ثورة الجياع» التي انطلقت هذا الشهر في «اثنين الغضب» الماضي. لكن ماذا يجمع كل هذه الظواهر المتتابعة على مسافات متقاربة، وماذا يميّز كلا منها؟
«ثورة الأرز» عام 2005 كانت سيادية بامتياز، قادتها الأحزاب اللبنانية المعارضة بتظاهرات مليونيه قلّ نظيرها، وأدت إلى انسحاب الوصاية السورية من لبنان.
أما «ثورة تشرين الأول» (أكتوبر) عام 2019، فكأنها بأجيالها الجديدة، أجيال وسائل التواصل الاجتماعية، اتخذت منحىً مضاداً لرموز الانتفاضة الأولى، بل كأنها انقلاب شبابي على الطبقة السيادية الماضية التي حكمت لبنان وأوصلته إلى نوع من الخراب العميم، متمثلاً بمنظومة فاسدة. أراد المنتفضون إسقاطها بقضها وقضيضها «كلن يعني كلن». بل وسجلت هذه الانتفاضة خروجاً جذرياً للجيل الجديد على المعادلات المذهبية والمحاصصة الطائفية. إنها ثورة الشباب ضد الأحزاب، بل فلنقل المشاركين فيها ارتدّوا على آبائهم الذين «صنعوا الحروب ودمروا البلاد» وسرقوا خيراتها وعبثوا بمكوناتها: ثورة الأبناء على الآباء. متميزة بمحاولة تقديم صورة «جديدة» للبنان، كمعادل لتلك الصور النمطية المعروفة، حيث جمعت متظاهرين من كل الطبقات، الفقيرة، المثقفة، البورجوازية، الريفية، المدينية.. وتمكنت من حشد تجمعات مليونية، ربما فاقت أعداد «ثورة الأرز». لكنه جيل الإنترنت والفيسبوك والواتساب، أي جيل «عملي» لا نظري، حركي لا متبلور فكرياً أو سياسياً، ولهذا لم يستطيعوا تشكيل أولويات لمطالبهم، وهوية متنوعة فاعلة لنزعاتهم؛ تارة يريدون إسقاط النظام، وأخرى إسقاط المنظومة أو حل مجلس النواب، أو تأليف حكومة من غير الطاقم السائد.. إلخ. بل لم يتمكنوا من تشكيل قيادة موحدة.. فوقعوا في الفوضى والتناقض والضياع، مما أثّر على نشاطاتهم وحراكاتهم، فتضاءلت، ثم كأنما انطوت صفحتها.
أما الحراك الأخير فانطلق في بداية شهر مارس الجاري بشعار «إثنين الغضب»، نتيجة وصول البلد والدولة والناس إلى الإفلاس، حيث ارتفع سعر الدولار إلى عشرة آلاف ليرة، مما يعني انهياراً لقدرة الناس على تأمين الحد الأدنى من العيش، لا سيما بعد أن وصل الحد الأدنى للأجور سبعين دولاراً للفرد في الشهر. إنها ثورة الجياع بامتياز. وقد ملأ شاشات التلفزة بؤس اللبنانيين وصراخهم وبكاؤهم: «ما معَنا حق كيلو خبز»، «ما معَنا حق الدواء».. إنها لحظات مؤلمة، حزينة، لشعبٍ عرف أخيراً أنه فقد كل شيء.
لكن هذا الحراك سجل مفارقة عجيبة: فإذا كانت الانتفاضتان السابقتان، السيادية والسياسية الاجتماعية، استجلبتا الملايين، فإن «غضب الجياع» لم يجذب الناس إلى الشارع، فكانت الأعداد خجولة، متواضعة، هزيلة، فعوض بعض المتظاهرين بقطع الطرقات وإحراق الدواليب المطاطية.
والسؤال هو: لماذا هذا الإعراض الجماهيري عن النزول إلى الشارع، رغم جروح الفقر والنكبات التي مست الجميع؟ هل يئس الناس من أشكال هذه الاعتراضات؟ هل هو وباء كورونا عزلهم في أمكنتهم؟ وهل فقدوا الأمل بأنفسهم وبغيرهم؟ وهل أوصلهم اليأس إلى عزلاتهم المريرة؟ وهل الانتفاضة الأخيرة في بلاد تحتضر، ولا من معين، وتتهاوى ولا من مجيب، تتحكم بها مجموعات حزبية أفلست وطناً، وحزب مسلح يتحكم بكل مفاصل الدولة، وكل الحدود، وكل السلطات الفعلية؟
أتراها الختام؟
لا أظن، فما بدأ قد بدأ.. ولن ينتهي.
لأن الآتي قد يكون أعظم!
لأن الآتي قد يكون جهنم نفسها!
*كاتب لبناني