ألغت التكنولوجيا المسافات الجغرافية بين البشر، وقلّصت المساحات الزمنية في تواصلهم، وأصبح العالم متداخلاً تداخلاً لا يمكن أن يعود إلى الوراء، فالأعراق بألوانها، والثقافات بأصولها والأديان بمفاهيمها أصبحت قريبة من بعضها، ولا يمكن تصور الواقع الذي نعيشه أن يعود إلى خمسين أو مائة سنة أو قبل ذلك، إن العالم بكل أبعاده يملك أن تعيش وأنت في بيتك، بل ويمكنك أن تسهم فيه بفكرك وسلوكك وأنت في مكانك، حيث تقيم سواء في قلب العالم أو أطرافه.
كان المأمول أن هذا التقارب البشري يؤدي إلى تفاهم بشري، ينطلق منه تعاون بنّاء يعود على الناس كلهم بالنفع والفائدة، لأن المخاطر أصبحت تواجه الناس جميعاً، ويمكن كذلك أن يستفيد الناس جميعاً من إيجابيات التحول البشري المستمر، ولكن الواقع غير ذلك بل عكسه، إذا اشتدت النزاعات وكثرت الحروب والخصومات، وأخطرها مما نعيشه اليوم هو الذي يلبس لباس الأيديولوجيات والمفاهيم الفكرية والدينية، والناس مختلفون في ذلك ولا يزالون مختلفين كما أرادهم خالقهم ولذلك خلقهم، إنها مخاطر تهدد مستقبل البشر كلهم للإمكانيات التقنية التدميرية التي لم يعد صعباً امتلاك جزء منها لأي فئة أو مجموعة بل وحتى الأفراد.
وأصبح التعصب لهذه الأيديولوجيات والمفاهيم والعقائد يتزايد يوماً بعد يوم؛ لأن علاج هذا النوع من التوترات والحروب لا يتم بالقوة المسلحة؛ لأنه يقوم على قناعات فكرية تترسخ منذ الطفولة الأولى إلى مرحلة الشباب والنضج. وقد يشارك فيها الصغار والكبار، ويكون وقودها المجتمع كله وتتسع الدوائر بعد ذلك.
وإن النموذج الذي قدمته دولة الإمارات العربية المتحدة لسحب شحنة التوتر والتعصب، وإطفاء فتيل النزاعات والحروب الصغيرة والكبيرة، هو نموذج محكم ومتين، وواضح يحفظ للناس جميعاً دماءهم وأموالهم وديارهم وأعراضهم.
وهذا النموذج الإماراتي يقوم على دعامتين الأولى: الأساس النظري والفكري والقانوني، والدعامة الثانية: هي التطبيق الصحيح لهذا الأساس في عالم الواقع، فلا يكفي أن تضع تصوراً أو قانوناً نظرياً، ولا تعمل على تطبيقه، وقد تبنت الأمم المتحدة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» في 15 ديسمبر 1948، أي منذ قرابة ثمانين عاماً، ورصت مبادئ وقوانين أخرى للطفل وغير ذلك، فهل تحسنت الحال وقد مرت ثلاثة أجيال أو أربعة؟ إننا نجد انتكاساً في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؛ لأن هذه القوانين لم تأخذ صفة الإلزام وإدخالها حيز التشريعات داخل الدول التي وقّعت عليه.
قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة بوعيها وتبصرها بالواقع والمستقبل، استشعرت تزايد النزاعات الدينية والفكرية والمذهبية، التي تتبنى العنف وسيلة، وهي كذلك تحتضن أكبر تجمع بشري تنوعاً، وفي كل المعايير جعلت أساسها قانونياً نابعاً من تقدير الإنسان لإنسانيته دون النظر إلى شيء آخر، وفسحت للإنسان الطريق لإبراز مواهبه متعاوناً مع من حوله في إطار واضح وقوي، فكان القانون رقم 2 لسنة 2015م في شأن مكافحة التمييز والكراهية، وقد ذكرتُ في أكثر من مناسبة أن هذا القانون بوضوحه وصراحته وقوته هو نواة صلبة تصلح لكل المجتمعات البشرية، حتى تجتث آفة التطرف الديني والعنف الأيديولوجي، وتجعل مسالك التعاون بين أبناء الوطن الواحد واسعة جداً، وطرق الخلاف والكراهية ضيقة جداً، ولو حصلت فإن أصحابها يعرفون مآلهم وعقوبتهم. وهذا القانون إذا عمَّمته الدول وأخذت به، فإن كثيراً من الطاقات التي تضيع هدراً ستكون موفَّرة لأعمال إيجابية، إن هذا القانون يلقي في قلوب المتطرفين مهما كان موقعهم أو مستواهم أو دينهم كثيراً من الموانع، التي تحول دون تطرفهم أو إساءاتهم لغيرهم، وأكثر الحروب التي كانت في وسط العالم، بل وجهاته منذ قرون مديدة كانت دينية؛ ولهذا فعلى العقلاء في كل دولة وشعب، وجهة أن ينظروا إلى الواقع والمستقبل ويتفادوا دمار الإنسانية وعدوان بعضها على بعض.
لقد ركز القانون على تحديد معنى الكراهية بين البشر فجاء فيه: «خطاب الكراهية: كل قول أو عمل من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات أو التمييز بين الأفراد والجماعات»، إنه قرن القول بالعمل، والحق أن القول يسبق العمل، وهما اللذان يؤديان إلى إشعال نار الاعتداء والتطرف بين فعل وردّ فعل.
وجعل هذا القانون المعتقدات، وهي المنطقة التي تثير الناس جميعاً بعيداً عن كل إساءة أو ازدراء أو تحقير فجاء فيه: «ازدراء الأديان: كل فعل من شأنه الإساءة إلى الذات الإلهية، أو الأديان أو الأنبياء، أو الرسل أو الكتب السماوية أو دور العبادة».
وجعل هذا القانون أن الإساءة لا تدخل في ساحة حرية الرأي والتعبير (المادة 3): «لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأي والتعبير لإتيان أي قول أو عمل من شأنه التحريض على ازدراء الأديان أو المساس بها». لقد كان خلال العصور كلها، وفي كل الأديان أناس لا يؤمنون بها ولا يعتقدونها، ولكنهم لم يسمح لهم أن يتحدوا المجتمع ويسيئوا إليه بعدم إيمانهم من إثارة الرأي العام، ونشر الفتن.
لقد مرت خمس سنوات على صدور هذا القانون الرائع، الذي سيبقى إضاءة وهاجة في تاريخ الإمارات العربية المتحدة وقيادتها وشعبها، وانتقل إلى حيز التطبيق وهو الدعامة الثانية، التي اتخذتها الدولة كما قلت، وعلى كثرة الثقافات والأديان والأعراق المتواجدة على أرض الدولة، فلم يحصل هناك صدام أو اعتداء ثقافة على أخرى، أو لون على لون أو دين على آخر؛ لأن هذا القانون منذ أن صدر أصبح ساري المفعول، ومضامينه مطبقة في أرض الواقع.
إن هذا هو الذي أعطى لدولة الإمارات العربية المتحدة التسامح المستمر فيها والاطمئنان الدائم لها، والتعايش المتناغم لأهلها ولمن يخالطهم، إنها قبل هذا القانون كانت نسيجاً فريداً في التسامح والتعايش، وجاء هذا القانون ليرسخ هذا التسامح والتعايش.
إن الأحداث التي تقع هنا وهناك لم تعد بعيدة عن أقصى نقطة في الأرض، وإن صداها وأثرها أصبح واسعاً، ودعوات العقلاء كدعوة الإمام الأكبر شيخ الأزهر لإيجاد تشريعات تحدّ من أعمال الغلو والتطرف باسم الدين أو ضد الدين هي وجيهة ومشروعة ومفيدة، لو تعاون فيها عقلاء الأديان وحكماء الشعوب والأمم.
وأقول لهم: إن النموذج بشقيه النظري كفكر واقتناع وقانون، والتطبيقي في حضوره والعمل به هو ماثل حقيقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، هذا النموذج هو الذي أعطى لها الريادة في نشر التعايش والتسامح.
حفظ الله دولة الإمارات العربية المتحدة وقيادتها الحكيمة مثالاً إنسانياً للتعايش والبناء.
د.فاروق محمود حمادة*
* المستشار الديني بديوان ولي عهد أبوظبي.