قد تظن في بادئ الرأي، أن هذا العنوان: «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل»، من المدونات التفسيرية، أو الحديثية أو الفقهية، أو حتى الوعظية، وستكتشف في أول صفحة من هذا الكتاب شيئًا آخر، فهذا الكتاب -الذي هو من تأليف العلامة المتفنن، والمهندس الميكانيكي، والمخترع المبتكر الشهير بالجزري (المتوفى: 1206م)- يملك شهادات ابتكار، وبراءات اختراع، أثمرت بخيرات كثيرة لا تزال حديث العالم في محافل المختبرات ومجالس العلم، فقد قدم مؤلف هذا الكتاب طريقة تصميم مكائن آلية، ذات أنظمة ذاتية، وساعات مائية، ومضخات، وعجلات مبتكرة، إلى أن بلغت به صناعة التخييل إلى تصور الرجل الآلي (Robot) الذي هو من مفاخر مبتكرات هذا العصر، فشرحه بدقة متناهية، مرفقاً إياه بالصور والرسومات، والمخططات التوضيحية.
فيتبين لكل مطالع للكتاب أن العلامة الجزري كان يعني في عنوانه، صناعة الابتكار فهي علم بارع، وعمل نافع، وذكاء خارق، وحذق كامل، وجودة في النظر، ودقة في التصرف.
إن صناعة الابتكار هي خيال ومهارة، وموهبة ربانية، ونمط حياة، وسمة إنسانية، وضرورة كونية، وحاجة متجددة، ونظرة مستقبلية، وهي شواهد ناطقة لقيم الصبر، والجدية، والاجتهاد، والإرادة، والعزيمة، والانفتاح على الآخر، والتسامح والتعايش، فقد خلق الله تعالى الإنسان لعمارة الأرض وعبادته، والاستجابة لضرورياته المعيشية، ولا يتحقق له ذلك إلا بإبداع المخترعات، والقدرة على إدارة المعارف وبناء المنجزات.
فلا محيد لنا إذن عن الابتكار والالتحاق بركبه، ولا حضارة قائمة أو إنجازاً جاء من دون إبداع ناهض، فهذا المصحف الشريف مثلًا الذي يجمع بين دفتيه كلام الله تعالى، وهو أقدس ما عند المسلمين، لم يكن في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، على ما هو عليه الآن، بل كان محفوظاً في الصدور، ولم يُجمع في كتاب واحد مسطور، ومنذ عهد الصحابة، رضي الله عنهم، تَطَوَّرت كتابة المصحف الشريف، ومرَّ بمراحل تاريخية، ورحلة إبداعية طويلة، مِنْ جَمْعِهِ في كتاب واحد، وتسميته مصحفًا، وكان حينذاك مجرداً من النقط والتشكيل ثم أضيفا إليه، وتم جمع قراءاته، ورواياته، ولغاته، وشرح ألفاظه، وتحزيبه وزخرفته، وتذهيبه، والتسابق في كتابته بخطوط جميلة، إلى أن سُجل بأصوات حسنة بديعة، فكان الابتكار والإبداع في خدمة القرآن الكريم ميداناً تَسَابَقَ فيه أولو العلم وأصحاب المواهب، حتى عَبَّر العلماء عن هذه الأعمال بأنها أعمال حسنة، جاءت تحقيقًا لمقصد عظيم، وهو تيسير القرآن الكريم للجميع، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرِ}.
إن تعاليم ديننا تدعونا إلى الاستدامة والاستمرارية، وإيجاد الحلول الناجعة المناسبة المستحدثة، وتسجيل النجاحات، والعمل النافع المفيد للبشرية، ففكرة الاجتهاد في «أصول الفقه» فكرة محورية وحيوية، وهي دعوة للابتكار، والبحث عن الحلول العلمية والواقعية، وعدم الاستسلام للتقليد الأعمى، حسب الضوابط ومراعاة الثوابت، قال ابن عبد البر المالكي: (وَأَمَّا ابْتِدَاعُ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا فَهَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عَيْبَ عَلَى فَاعِلِهِ)، فالإبداع لا حدود له، والأفكار متحركة، كما أن الزمن والمجتمع لا يتوقفان، فسلامة الشعوب وصحتها وتقدمها إنما تكون بالتطور والتعليم، والكفاية الإبداعية، وتصميم المستقبل والإعداد له.
وقد كان حس العربي الأصيل وذوقه العالي دائمًا يدرك معنى الابتكار في كل شيء، فكانوا يقرؤون القصيدة ويصفونها بأنها خالية من المعاني الجديدة والمبتكرة، فكتبوا تاريخًا مع الإبداع في شتى المجالات، في الكتابة والتدوين وأدواته، والطب، والكيمياء، والفلك، والجغرافيا، والأدب، والفلسفة، والفن، وغيرها.
فلماذا الابتكار إذن؟ إنه مسؤولية آباء، وأمانة أبناء، وهَمُّ وطن، وثقافة شعب، وحياةٌ أفضل، وأمل فسيح للشباب، ومنظومة تعلمية نموذجية، وإلهام للإنسانية... فالابتكار اليوم هو محرك الحضارة والإنتاج، ومقياس تقدم الأمم وتنميتها، وهذا يستوجب من الجميع إيلاء هذا الموضوع الاهتمام الذي يستحقه، ويستوجب علينا أداء هذا الدور، الفاعلية والتفاعل مع ما يتسم به العالم اليوم من البركان المعرفي والتقني والتواصلي والثقافي، والانفتاح على العالم، فأصبح من المستحيل العيش في عزلة عن عالم سريع التغير والتطور في كل ثانية، فلا بدَّ أن نلبس له لبوسه، بالقيادة والتأثير، والتكيف والتنافس، والكفاءة المهنية والمعرفية، ووضوح الرؤية المستقبلية، فمن يملك ناصية الإبداع والابتكار فهو الذي يملك بوابة المستقبل.
وإن دولة الإمارات من الدول المتميزة في مجال الإبداع والابتكار والتميز، لديها في ذلك رؤية واضحة، وتاريخ حافل، وشباب ماهر، وشعب تواق، وفي كل مناسبة تُثبت للعالم مدى شغفها بالابتكار، وولعها بالمعرفة والصناعة، فاقْرَأْ قصتها ونجاحها مع حدث الساعة جائحة «كوفيد 19»، وتَأَمَّل معجزة العصر بالوصول إلى المريخ عن طريق مسبار الأمل، بمجهودات وطنية محلية، واسْتَلْهِم دروس النجاح من قيادتنا الرشيدة التي هي من أهم روافد الابتكار، وها هي دولتنا اليوم تدخل عهدتها الخمسينية الثانية التي شعارها المزيد من الإبداع والتطوير، فلا نملك إلا أن ندعو لقيادتنا الرشيدة ولدولتنا بالتوفيق والسداد والنجاح، في هذه المسيرة المباركة، والزيادة من العلم والمعرفة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}.
* كاتب إماراتي