الأصعب في النزاعات الداخلية المسلّحة في أي بلد وفي التسويات التي تُجترح لها، أحياناً من باطن المستحيل أو غير المتصوّر، أن صانعي الحلول لا يستطيعون غالباً معرفة ما يدور فعلاً في أذهان الأطراف التي يفاوضونها. هذا ما كان عليه الحال في محاولات المبعوثين الأمميين إلى ليبيا طوال الأعوام العشرة الماضية، وقد توصّل هؤلاء إلى اقتناع بأن الصعوبات الداخلية والتنافسات الخارجية تتخادم في ما بينها وتحول دون بلورة اتفاقات مؤهّلة للعيش ولتطويرها بالبناء عليها. لم تكن التطورات الميدانية دائماً انعكاساً لإرادات خارجية بل تجارب في المغالبات الداخلية، ولم تكن هناك ثوابت لمصلحة ليبية لإلزام التدخّلات الخارجية بها. وحتى الآن لم تتوحّد هذه الثوابت وتتبلور لتصبح موضع إجماع مختلف الفئات الليبية.
في الأساس أفضت الانتفاضة الشعبية ضد النظام السابق إلى وضع لا تحكمه قواعد سياسية محلية متوافق عليها، ولا يمكن إخضاعه لقواعد سياسية دولية متعارفٍ عليها ويمكن تطبيقها، فكان لا بدّ من الاجتهاد. صحيح أن الليبيين انتخبوا مجلسين، باقتراع لم تشبه شائبة، إلا أنه في الحالَين لم تكن هناك دولة بل سلطة انتقالية، ولم تكن هناك مؤسسة أمنية واحدة بل حالة من الشرذمة بين نواة للجيش والأمن (أمكن العمل معها في صيغة 5+5 لوقف إطلاق النار) وبين ميليشيات موزّعة الولاءات وتهيمن عليها نزعة «الإسلام السياسي» بغلبة واضحة للتيار «الإخواني». هذه الميليشيات كانت ثم أصبحت مع الوقت عنصر تخريب وتعطيل لأي حلول ترمي إلى بناء الدولة وتوحيد الجيش والأمن.
ما حصل في الشهور الأخيرة على المسارات كافة، العسكرية والسياسية والاقتصادية، يشكّل نجاحاً واضحاً للبعثة الأممية، وما كان ليحصل لولا تشكّل إرادة دولية كان للجانب الأميركي دور كبير في رسمها، مستنداً أولاً إلى مخرجات مؤتمر برلين (يناير 2020)، وثانياً إلى المجريات الميدانية واحتدام الصراع الدولي حول ليبيا. ولا يزال غير واضح ما إذا كانت قد تشكّلت أيضاً إرادة ليبية وطنية بفضل الحوارات المكثّفة التي لم تحل الموانع الجغرافية ولا الصحّية دون تفعيلها بمواظبة دؤوبة من السفيرة ستيفاني وليامز. فمن وقف إطلاق النار، إلى انفراجات على الأرض ولو غير كافية، إلى خطوات أولية لتوحيد البنك المركزي ومؤسسات أخرى، وصولاً إلى انتخاب سلطة تنفيذية جديدة لقيت ترحيباً نوعياً غير مسبوق.. كلّها خطوات تتكامل ومن شأنها أن تضفي تغييرات على الواقع الانقسامي.
ويُنظر الآن إلى انتخابات ديسمبر المقبل على أنها المحطة المحورية لإنهاء الصراع المسلّح والشروع في عملية سياسية. ثمة رهان على السلطة الجديدة كي تستكمل خطوات توحيد المؤسسات، ويُمكنها إحداث فارق إذا استمرّ الدعم الداخلي والدولي لها. لكن أطرافاً ليبية عديدة تتساءل عمّا سيتغيّر فعلاً وهل أن الأطراف التي تلاعبت ببرلمان 2012 وانقلبت على برلمان 2014 ستقبل نتائج انتخابات 2021. كان لافتاً في انتخابات ملتقى الحوار السياسي الليبي كيف أن جماعات الإسلام السياسي حاولت البروز والتأثير ثم انكفأت، وكيف أن انقسامات ميليشياتهم طفت على السطح في طرابلس. لا بدّ أن تحسم المرحلة الوشيكة وضعهم ومصيرهم لئلا يُفشلوا مرّة أخرى محاولات التحول نحو دولة، لأنهم لا يستطيعون العيش والبقاء إلا في حالين: إما إدامة الفوضى، أو أن تكون الدولة «دولتهم».