يتساءل الفيلسوف الألماني «هارتموت روزا»: هل فقد الإنسان حاسية الترابط الإنساني التي هي منشأ القيم والتقاليد الاجتماعية والسياسية، مع تراجع تجربة التقارب المكاني بين البشر إثر جائحة كورونا الراهنة التي فرضت التباعد بين الناس؟
إذا كان «روزَا» يخلص إلى أن التكنولوجيات الحديثة تقوم على الجمع بين حركية الإسراع في المكان والزمان مع تجميد الحاجة الفعلية للحركة نتيجة لوسائل الاتصال والنقل الجديدة، فإنه يرى في الآن نفسه أن مأزق كورونا حول هذه الظاهرة إلى نمط من التدبير العملي للوضع الإنساني قد يتحول في المستقبل إلى سلوك دائم، حتى بعد الانتصار على الوباء الحالي.
والواقع أن العالم عرف خلال السنة التي مضت على بداية انتشار الوباء تجربة الإغلاق التي اعتُبرت في البداية مؤقتةً ومحدودةً ولكنها تواصلت من بعد، ولا يُتوقع أن تنحسر حتى بعد تعميم التلقيح على نطاق كوني كامل. ومع أن إغلاق المدن في حد ذاته ليس بالظاهرة الجديدة، بل إن العالم عرف من قبل إجراءات الحظر وتقييد الانتقال في فترات الحروب والأوبئة، إلا أن التجربة الجديدة لها خصوصياتها ومحدداتها المميزة من وجهين: اتساع وتيرة الضبط والحجز خارج اعتبارات الضرورات الصحية والأمنية المباشرة، وتداخل إجراءات الإغلاق مع السياسات العمومية الدائمة.
وكما هو معروف، انطلقت تجربة إجراءات إغلاق المدن من الصين قبل أن يجري تمديدها إلى جل بلدان العالم. وإذا كان الإغلاق في جانب منه يعني تعطيل نمط المدينة المفتوحة، الذي هو من مقومات الحداثة في معاييرها الليبرالية وأفقها للعيش الجمالي والاستهلاكي ومقاربتها للجسد المتكشف، فإنه من ناحية ثانية يعني قدرة الثورة التقنية الجديدة على تعويض الروابط التجميعية التحشيدية التي بلورتها الثورة الصناعية الأولى في ضبطها لنظام العمل وللتركيبة الطبقية المترتبة عنه. لقد بينت المعطيات الإحصائية الجديدة أن تجربة إغلاق المدن أدت إلى قلب التوازنات الاقتصادية، بتراجع أنماط الاقتصاديات التقليدية القائمة على الانتقال والحركة المكانية (الطيران والسياحة والفندقة..) وتضخم اقتصاديات الذكاء الاصطناعي المؤسسة على السيلان الافتراضي والتواصل الرقمي (التجارة الإلكترونية والمنصات التعليمية عن بعد والنشر الإلكتروني..).
ومع أن جل دول العالم عانت مصاعب جمة في تسيير إجراءات الإغلاق، بتكاليفها الاقتصادية والاجتماعية الباهظة وأثرها السلبي على نمط الحياة السياسية والنظام المؤسسي الإداري للدولة، إلا أن تجربة سنة كاملة من الحظر والتقييد بدأت تفرض التفكير في بدائل دائمة تعوض الخسائر والمصاعب الحالية في أفق استمرار الأزمة لسنة قادمة.
لقد أصبح من البديهي أن الحكومات مضطرة على الخصوص إلى مراجعة ثلاثة أنماط حيوية من السياسات العمومية: إجراءات ضبط وتنظيم الحريات الفردية والعامة والتعددية السياسية، والسياسات والنظم الصحية، والسياسات الإعلامية.
وبخصوص الجانب السياسي المرتبط بالحياة الديمقراطية، أثبتت تجربة الإغلاق الحاجةَ الماسّة إلى ملاءمة ضرورات الوقاية الصحية مع حقوق الأفراد والجماعات في التعبير والنشاط الحر، في مرحلة جُرد فيها الإنسان من حقوقه الأولية في التنقل والعمل، وعُطِّلت الاستحقاقات الانتخابية حتى في الديمقراطيات العريقة.
أما السياسات الصحية العمومية، فقد أظهرت عجزها الكلي عن امتصاص الصدمة الراهنة، حتى في البلدان الصناعية المتطورة التي عانت من مصاعب الرعاية الفعالة والسريعة لضحايا الجائحة حتى في أدنى مستوياتها؛ من توفير الأقنعة الوقائية ومستلزمات النظافة الجسمية إلى الأدوية العلاجية وأجهزة التنفس وغرف الإنعاش الطبي. لقد ظهر من الجلي أن نمط التدبير الصحي القائم على عولمة المنتجات الاستشفائية وخصخصة الرعاية الطبية لا يمكنه أن يواجه الموجة المتجددة من الأوبئة الفيروسية التي يؤكد المتخصصون أن العالم لا يزال في بدايتها.
أما الإعلام التقليدي فقد ظهر أنه من ضحايا الجائحة الحالية التي انجرَّ عنها توقف مئات الصحف المكتوبة عن الصدور وتراجع السوق الإعلانية إلى حد منذر بالخطر. وإذا كانت الطبعات الرقمية للصحف قد استفادت نوعياً من الأزمة الراهنة التي ضاعفت وتيرة الإقبال على القراءة والمطالعة، فإن المطروح راهناً هو استثمار التحديات الحالية في بلورة حلول دائمة ونهائية لمشكل الإعلام التقليدي الذي يراهن البعض على نهايته الوسيطة. وإذا كانت العديد من الأحداث المعروفة قد بيّنت زيف وهم استبدال الإعلام التقليدي بمواقع التواصل الاجتماعي السيارة (بما بيناه سابقاً في هذه الصفحة)، إلا أن التفكير أصبح ضرورياً في إعادة رسم السياسات الإعلامية الملائمة للحفاظ على مكاسب الاستقصاء والتنوير والنقد التي ترجع لعصر الصحافة المكتوبة ضمن فرص وإمكانات العصر الرقمي الجديد.