تشكل قضية الصحراء المغربية قضية تحررية بامتياز ضحّت في سبيلها أجيال مغربية عدة قبل الاستقلال وبعده، فهي معركة بذل فيها الملك محمد الخامس جهوداً وتضحيات جساماً، ثم أعطاها الملك المغفور له الحسن الثاني نفَساً قوياً من خلال إبداع «المسيرة الخضراء»، والذي لولا حكمته وتبصره ونظرته الاستباقية وخصوصاً جرأته لما تمكّن المغرب من استرجاع صحرائه. كما عمل جلالة الملك محمد السادس، من خلال سياسته الحكيمة، على تكريس مغربية الصحراء، باعتبارها قضية وطنية مصيرية، جسّدها جلالته في مقولته الخالدة «سيظل المغرب في صحرائه وستظل الصحراء في مغربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها».
إن قضية الصحراء المغربية بعد النجاحات الدبلوماسية الأخيرة، لم تعد تطرح في الظروف نفسها التي ظلت توضع فيها طيلة العقود السابقة، بعدما أقرت الولايات المتحدة الأميركية بمغربية الصحراء في 10 ديسمبر، وهو بالفعل حدث دبلوماسي كبير، يكاد يضاهي في قيمته حدث المسيرة الخضراء للعام 1975.
ولا جرَم أن هذا الاعتراف الدبلوماسي يعزز مسار الحل الذي اعتمدته قرارات مجلس الأمن الدولي، وآخرها القرار 2548 الصادر يوم 30 أكتوبر 2020. ويتسم هذا المسار بتمحوره حول عدة مبادئ، من بينها: سيادة ووحدة تراب المملكة، وسمو المبادرة المغربية لمنح حكم ذاتي للصحراء، وتزكية الطابع الرباعي للمفاوضات.. كما أن هذا القرار يحتوي على ثلاث رسائل: الوضوح والحزم والثبات، حسب تعبير معالي وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة. ثم إن هذا القرار لا يورِد، على غرار القرارات السابقة، وكذا القرارات التي تبناها مجلس الأمن على مدى عقدين من الزمن، أي إشارة إلى الاستفتاء الذي أقبره كل من الأمين العام للأمم المتحدة والجمعية العامة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
كما أن القوة الدبلوماسية المغربية تعززت بافتتاح 19 قنصليةً عامة في مدينتي العيون والداخلة، تمثل دولاً من مناطق عدة، بما في ذلك افتتاح دولة الإمارات العربية المتحدة قنصليةً لها في مدينة العيون. ويجسد افتتاح هذه التمثيليات تعبيراً رسمياً يعلو وما يعلى عليه عن اعتراف هذه الدول بمغربية الصحراء، وتكريساً لدور الأقاليم الجنوبية بوابةً للمغرب نحو أفريقيا. كما أن كل هذا يوحي بما لا يدع مجالاً للشك بأن المنظومة الدولية تعتقد يقيناً بجدية المبادرة المغربية للحكم الذاتي للحل السياسي للنزاع المفتعل حول صحرائه، بتكريس حكم ذاتي موسع تحت السيادة المغربية، وفي إطار الوحدة الترابية للمملكة المغربية.
وقد أكد منذ أيام سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، موقف دولة الإمارات ومبدأها الثابت في الوقوف مع المملكة المغربية في قضاياها، مجدِّداً دعم الدولة الكامل للمغرب في سيادته على منطقة الصحراء المغربية كلها وفي جميع الإجراءات التي يتخذها للدفاع عن سلامة وأمن أراضيه ومواطنيه، وتأييد دولة الإمارات لمبادرة الحكم الذاتي للمغرب على هذه المنطقة. وجاء ذلك خلال مشاركة سموه في المؤتمر الوزاري الذي نظمته الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المغربية عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد، حول دعم حل الحكم الذاتي بالصحراء المغربية، حيث ترأس المؤتمر ناصر بوريطة، بمشاركة ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي، وعدد من وزراء الخارجية وكبار المسؤولين في عدد من دول العالم.
ويقيني أن الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء يشكل محطة كبرى، إن لم نقل فاصلة في سلسلة الانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب، انطلاقاً من تقديم مبادرة الحكم الذاتي الموسَّع لحل النزاع المفتعل، والتفاعل الإيجابي للمنتظم الدولي مع هذا المقترح والتنويه به ووصفه بالجدي والواقعي وذي المصداقية.
وموازاةً مع هذه المنجزات الدبلوماسية، يواصل المغرب على أرض الواقع لجعل الأقاليم الجنوبية منارةً عمرانيةً وقِبلةً حضاريةً متميزةً وقطباً للتنمية الدائمة بالمنطقة، من خلال إجراءات واقعية وملموسة، بما في ذلك مواصلة الجهود لتنزيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية والاستمرار في تنزيل ورش الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي للمملكة.
والمغرب بشهادة الخبراء الاستراتيجيين العالميين، هو حامل لرؤية سلام وتعاون، في إطار قاعدة استراتيجية تتلاءم والنظام العالمي المنشود لما بعد جائحة كورونا، وأعني بذلك قاعدة «رابح-رابح» في مجال علاقاته الدولية.. وهو ما يحسب للحصيلة التاريخية لجلالة الملك محمد السادس الذي تمكّن من تحقيق هذه المنجزات بثبات وحكمة استراتيجية.