حاول التراث اللغوي القديم الجمع بين الثابت والمتحول في اللغة. ففي علم أصول الفقه، ميزوا بين المعاني الأولية الثابتة للألفاظ ومعانيها الثانوية المتغيرة. فهذه خاصية اللغة العربية وحدها، ولا يمكن ترجمتها، وهي خاصية متعلقة بالوجدان العربي نفسه، وبالجمال العربي، وبالتصور العربي. كما بيّن علم الأصول في مبحث الألفاظ ثبات المعنى وحركته في ثنائيات الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المقيد والمطلق، المبين والمجمل.. إلخ. وعلى الفقيه أن يقوم بالانتقال من المحكم إلى المتشابه لإعطائه مزيداً من حرية الفكر والقدرة على الاستنباط لصالح الزمن الجديد. واستعمل الفلاسفة والمتكلمون، خاصة المعتزلة، التأويل من أجل تحريك المعنى الحرفي بعيداً عن اللفظ الثابت الأول إلى معنى آخر يتفق مع العقل عند المتكلم والفيلسوف، ومع المصلحة عند الأصولي والفقيه. أما الصوفية فإنهم رفعوا اللفظ كلية باعتباره سجناً للمعنى، وقيداً للحقيقة، وآثروا لغة الصمت أو لغة الإشارة الرمزية الأكثر اتساعاً، والتي هي أقرب إلى الحركة منها إلى الثبات. فالتصوف حركة، والطريق إلى الله تحرك وسيلان دائمين في الشعور.
الكلام إذن أكثر اتساعاً من اللفظ، وأكثر رحابة من الحرف والكلمة والأداة. الكلام إيحاء وإيماء وإشارة وعلامة. والصورة الفنية أبلغ من العبارات التقريرية الوصفية. لذلك اعتمد القرآن على التصوير الفني أكثر من اعتماده على الخطاب الأمري، فالصورة الفنية تُقنع وتؤثر. والقصص القرآني أبلغ من العظات المباشرة التي تُنسى بمجرد سماعها.
وفي الثقافة العربية، الكلمة شخص. والكلمة وجود كما هو الحال في معنى Logos عند فيلون ويوحنا. واللغة عند هيدجر «منزل الوجود»، يسكن فيها الوجود ويخرج منها. وفعل الكينونة ليس مجرد فعل بل هو الوجود المتضمن فيه. يظهر في اللغات الأجنبية ولا يظهر في اللغة العربية، لأن الوجود متضمن في الكلام، ولا يحتاج إلى إثبات، كما لاحظ الفارابي من قبل في «كتاب الحروف».
وحيث إن اللغة بمثل هذا الاتساع فيجدر بمجامع اللغة العربية أن تعمل على التحول من اللغة إلى الفكر، ومن الفكر إلى العالم، وذلك من خلال:
1- تحليل الخطاب العربي المعاصر، السياسي والديني والفلسفي والاجتماعي والإداري والقانوني والتاريخي.. إلخ، من أجل معرفة إلى أي حد يدل على شيء، أو يفيد معنى، أم أنه مجموعة من الألفاظ المنغلقة على ذاتها يتحول فيها اللفظ إلى معنى وإلى شيء، فاللفظ هو كل شيء أو على أقصى تقدير يُحمّل بأكبر قدر ممكن من الانفعالات في أقصى درجات حدتها لملء الفراغ اللغوي في اللفظ، فيصبح إنشاءً وخطابة وصخباً وصراخاً. فالخطاب السياسي العربي المعاصر يعد ويتوعد، يُمنّي ويتمنّى، يرهّب ويرغّب، يكشف على السطح ويتستر في العمق.. يخاطب الوجدان البطولي، وكأنه خطاب عنترة بن شداد أو طارق بن زياد. الانفعال فيه عالٍ، والإنشاء أخبار، والتمني تقرير. لا فرق بين الخطاب السياسي والخطاب الديني والخطاب الإداري. وأحياناً ينغلق الخطاب على نفسه في مجموعة من الألفاظ، وكأنها توحي بذاتها كما هو الحال في الأيديولوجيات القطعية والمذاهب المغلقة دينية أو سياسية، سلفية أو ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية، ثم توجيه هذا الخطاب إلى عالم الأشياء والوقائع لإعادة قياسه عليه حتى لا يصبح فضفاضاً أكثر منه أو ضيقاً عليه أقل منه. وبدلاً من أن يمتلئ بالإنشائيات أو بالصراخ، حتى لقد وصف البعض العرب بأنهم ظاهرة صوتية، فإنه يتأسس على واقع إحصائي دقيق حتى تستطيع الكلمات أن تصبح وقائع، ويتحد اللفظ بالشيء، والكلام بالعالم. ويقترب الخطاب الأدبي من الخطاب العلمي بدلاً من هذه الهوة الشاسعة في الفكر العربي المعاصر بين الإنشاء والخبر.
2- التحول من تحليل الخطاب المدون إلى تحليل الخطاب الشفاهي في ثقافة بدأت شفاهية، وكان التدوين فيها متأخراً. ومازال مركزها يحفظ شفاهياً. وما يزال علمها في شعب تبلغ الأمية فيه 65%، ينقل شفاهياً، ومازال نموذجها مبنياً أمياً، وكما أن للخطاب المدون قواعده وتراكيبه اللغوية فإن للخطاب الشفاهي آلياته وأساليبه. وهنا تظهر أهمية الأمثال العامية وسير الأبطال الشعبيين كملوّن رئيسي للوجدان الشعبي، يستمد منها قيمه ومُثُله، ويستشهد بها في أحزانه ومصائبه أكثر مما يلجأ إليها في أفراحه وانتصاراته. فالنصر لا يحتاج إلى تبرير مثل الهزيمة. النص الديني والمثل الشعبي يؤديان نفس الوظيفة؛ الأول كثقافة عامة والثاني كثقافة شعبية، الأول من الله، والثاني من تجارب البشر وحكمة الشعوب. الوحي والطبيعة نظام واحد، التنزيل والتأويل كما قال القدماء. تحيا اللغة في الذاكرة الجمعية ويستدعيها الناس كمجموعة من الأقوال المأثورة. اللغة ما يتحدث به الناس، وما تثير في ماضيهم من نخوة إذا ما تعثر الحاضر، وضاق الحال.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة