الويلسونية تعني المبادئ الأربعة عشر التي تقدم بها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في يناير 1918، وشكلت الإطار المرجعي لعصبة الأمم التي تأسست في مؤتمر فرساي الشهير المنعقد في يونيو 1919. ومع أن الكونغرس الأميركي رفض التوقيع على ميثاق عصبة الأمم الذي هو أول تجسيد عملي لفكرة النظام الدولي الليبرالي الحديث، إلا أن المثالية الويلسونية انتصرت في نهاية المطاف وأصبحت المرجعية النظرية والقيمية للمؤسسات الدولية التي تشكلت برعاية أميركية بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع ما يشهده العالم حالياً من نقاش جوهري حول اعتبارات السيادة في علاقتها بالتزامات القانون الدولي في أبعاده الحقوقية والمعيارية وأثر هذا النقاش في مستوى العلاقات الدولية الراهنة، يتساءل المفكر السياسي الأميركي «والتر راسل ميد» الأستاذ بجامعة ييل، في مقالة أخيرة بمجلة «فورين افيرز»: هل نشهد حالياً انتهاء الحقبة الويلسونية التي قد تكون خصوصية أوروبية جرت محاولة تعميمها على العالم؟
للإجابة على هذا السؤال، يذكِّر «ميد» بالخلفيات البعيدة للويلسونية، بالتركيز على اتفاقيات وستفاليا عام 1648 التي أنهت عهداً كاملاً من الحروب الأوروبية الطويلة، ونظام المؤتمرات الدولية الذي انجر عن حقبة ما بعد الحروب النابليونية في بداية القرن التاسع عشر. بل إن مبدأ الحماية الدولية لحقوق الإنسان أصبح مألوفاً في الديبلوماسية الدولية منذ مطلع القرن العشرين. وما استنتجه ويلسون من تجربة الحرب العالمية الأولى، هو أن تفادي المواجهات المدمرة يتطلب تنازل مختلف الدول عن جانب من قرارها السيادي، وفق نظام من الالتزامات القانونية المتبادلة.
ولا يمكن عزل هذا التصور عن النزعة الليبرالية الأنغلوسكسونية المتفائلة التي كانت تراهن على التقدم التكنولوجي والاقتصادي في تحرير الإنسان من الاستبداد والعنف، وبالتالي القضاء على الحرب في المجتمعات المتحضرة الحرة.
إن هذه الرؤية هي التي انطلق منها بُناة النظام الدولي بعد الحرب العالمية، وهي التي سيطرت على القيادات الليبرالية الغربية بعد نهاية الحرب الباردة التي رأت فيها نهاية التاريخ وعصر انتصار الحرية والديمقراطية والسلم العالمي.
لكن بعض التحديات الخطيرة بدأت تعصف بهذه المقاربة المثالية، من بينها: عودة الجيبلوتيكا المؤدلجة البارزة في السياسة الخارجية للقوى غير الغربية (مثل روسيا والصين) التي ترى في المقاربة الويلسونية تهديداً لنظامها الاندماجي الداخلي، وطبيعة الثورة التقنية الحديثة التي جذّرت الاستقطاب السياسي داخلياً ودولياً، وتطور أنظمة التسلح التي تنذر بشل منطق الردع التدميري الشامل.
ولقد وجدت القوى الإقليمية الصغرى مظلةَ حماية وهامش مناورة في تحدي القوى الدولية الكبرى للرؤية الويلسونية للنظام العالمي، بما يعقد المعادلة الاستراتيجية الكونية.
ما يشير إليه «ميد» بوضوح هو أن فكرة التطابق التاريخي الحتمي بين المجتمعات والدول وفق غائية نموذج التقدم الغربي ظهر زيفها، إذ أثبتت التجربة أن التطور التقني والاقتصادي لا ينتج عنه ضرورةً الخيار الليبرالي السياسي، كما توضح تجارب روسيا والصين والهند وتركيا.. إلخ.
بل لعل فكرة توازن القوة بين دول تتنازل عن جانب أساسي من سيادتها من أجل تثبيت علاقات السلم بينها، هي فكرة أوروبية اقتضتها الحروب المدمرة التي نشأت عن تفكك الإمبراطورية الرومانية الوسيطة والإمبراطوريتين النابليونية والجرمانية، بينما في العالم الشرقي نشأ نظام آخر هو الدولة الحضارية المنكفئة على حدودها الثقافية والبشرية التي لا تنسجم بالضرورة مع المفهوم القومي الجغرافي للدولة. وعلى الرغم من تباين الأنظمة والمصالح بين الصين واليابان وكوريا، فإن هذه البلدان تعايشت قروناً طويلة سلمياً قبل الاحتكاك بالغرب، ولا معنى في متخيلها السياسي لمقولة السيادة المتقاسمة والتدخل الخارجي تحت مظلة الشرعية الدولية.
قد يكون السؤال الجوهري الذي لم يطرحه الباحث الأميركي هو العلاقة العضوية بين نموذج الدولة القومية والنزعة الويلسونية، باعتبار أن منطق الدولة الوطنية يرتكز على معيار السيادة المطلقة، بما يولد ضرورة منطق التصادم بين السيادات اللامحدودة، ومن هنا ضرورة وضع قواعد لفك الاشتباك بين الوحدات السيادية القومية. ومن هنا أيضاً، فإن الخلل الذي لاحظه «ميد» لا يرجع إلى انحراف المثالية الويلسونية، وإنما محاولة تنزيلها خارج إطارها المرجعي الأصلي، بتحويلها من منظور التحكيم والتوازن إلى منظور القولبة الأخلاقية والقانونية (مقولة المجتمع الدولي والوحدة الإنسانية الشاملة).
وما تسعى إليه الدول الكبرى غير الغربية هو الحفاظ على منطق التوازن الذي تعرض لانتكاسة قوية بعد نهاية الحرب الباردة، أما حلم السلم العالمي بين أمم منسجمة متماثلة في النظام السياسي وفي القيم الاجتماعية، فلم يكن له يوماً شأن في العلاقات الدولية التي تحكمها توازنات المصالح والقوة.