نقول للتاريخ في هذه الأيام التي نحتفل خلالها باليوم الوطني التاسع والأربعين: إن حكمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وبصيرة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، أنارا السبل نحو تحقيق الاتحاد الحلم الذي شغل تدشينه تفكير زايد من أجل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، هذه البقعة من الأرض التي ستغير وجه التاريخ العربي من جديد، وهذا ما تحقق بصحوة القائد زايد.
حكم زايد العين وعينيه على الماء، نبع الحضارات في سالف الأزمان، فقد شارك المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان المزارعين بيديه في حفر الآبار وهندسة الشرائع لضمان انسيابية وصول أثمن مورد على الإطلاق للشعب آنذاك وفي كل آن. وعندما آن أوان قطف ثمار عرَق زايد الذي اختلط بمياه الآبار التي جرت من بين أصابعه، ظهر على السطح تجار حاولوا احتكار الماء العذب، فلجأ الناس إلى عدل زايد لإنقاذهم من جشع التجار، فأصدر بحكمة عدله وثاقب رؤيته قرارات ثقبت براميل المحتكرين، عندما سد هذا الباب بتشريع مجانية الماء الذي منع بيعه بالمطلق، فكم بلغ فرحة الناس آنذاك من هذا القرار المصيري، والذي لولاه لمات البعض عطشاً، فزايد قضى عقدين يُحيي العين بماء الحياة.
زايد من العين إلى أبوظبي، حمل معه قصة هذا الماء التي لم تغادر هاجس تفكيره، فليس في العاصمة مجال لحفر الآبار لطبيعة الجزيرة المالحة، فأبوظبي كانت آنذاك كالعيس في البيداء عطشى والماء من فوق ظهورها محمول.
حاكم العين الذي أصبح حاكماً للإمارة كلها وبجزرها المائتين لم يقبل بأن يكون سكانها عطشى، فاتجه بناظريه إلى البحر الذي يحيط بأبوظبي، فلم يقبل لظبائها أن تَنَفق عطشاً، فحول الماء المالح إلى العذب ليزيل السبخ عن جباه الظبى، هذا هو التحدي الأكبر الذي استطاع زايد التغلب عليه.
وقد زاره ضيف أجنبي في العين وهو خبير مائي يثبط من عزم زايد في قدرته على تحويل الصحراء إلى ظلال وارفة وأشجار يانعة، فعاود الخبير الذي ظن بنفسه نِحريراً أمام زايد وهو حاكماً لأبوظبي، وقد تبدلت العين من الصفرة إلى الخضرة، مُقرا بالجهود الكبيرة التي قام بها المغفور له الشيخ زايد.
وأشهد أني عشت فيها آنذاك أربع سنوات سّمان في «جامعة العين» قبل أن تسمى بالإمارات، أذهب في عز القيظ بعد العصر إلى حديقة الهيلي للمذاكرة وسط النسيم العليل للحديقة التي تشهد معنا على آثار زايد، فقد أقر بهذا لتطوير الخبير الذي أحس بتواضع خبرته أمام همة زايد وطموحاته البعيدة المدى.
صادف في أوائل السبعينيات من القرن الماضي أن صديقاً لي كان يعمل في «ورشة» شيوخ آل مكتوم، حيث طلب مني مرافقته إلى أبوظبي لإعادة إحدى سيارات الشيخ راشد، رحمه الله من هناك، فكنت طوع أمره ولي الفخر. ولأول مرة أقطع طريقاً لقرابة 140 كيلومتراً وكأنها ألف كيلو لأنها طريق قاحلة لا ترى فيها زرعاً ولا ضرعاً أو طيراً. ولم يمض على هذا الحال سنوات معدودات حتى زانها زايد بغابات ممتدة إلى قلب عاصمة الدولة الاتحادية الناشئة، فكانت فلسفته تكييف الهواء وتبريده واستراحة الإنسان العابر من هنا تحت ظلال الأشجار وإطعام الطيور المحلقة في سماء ربها عندما تطير خماصاً وتعود بطاناً.. كل ذلك بفعل إدراك زايد لأهمية الماء الذي كان يزعجه الهدر فيه إلى حد الغضب.
زايد لا يعترف بالعمل في الغرف المغلقة ولا من فوق الأبراج العاجية، بل العمل في الميدان.