في الأيام القليلة الماضية، وقعت الصين و14 دولة أخرى اتفاقاً تمخض عنه أكبر تكتل للتجارة الحرة في العالم. فثلث نشاط اقتصاد العالم يستقر في الدول التي وقعت على «اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة». والتوقيع تم فعلياً على هامش القمة السنوية لـ «رابطة دول جنوب شرق آسيا» (آسيان) التي تضم عشر دول. والهند كانت هي الاستثناء الملحوظ في الامتناع عن التوقيع على الاتفاق، وقررت في نوفمبر الماضي ألا تشارك في الاتفاق الإقليمي بسبب سلسلة من الشكوك والمخاوف. وكانت المفاوضات بشأن الاتفاق قد بدأت عام 2012 والهند كانت جزءاً منه. ولم تتعزز الشكوك والمخاوف إلا بعد انتشار جائحة فيروس كورونا والعراقيل التي شهدها العالم في سلاسل الإمداد العالمية بسبب فرض الدول إغلاقاً وقيوداً من حين إلى آخر. لكن الدول الموقعة مازالت تريد أن تكون الهند جزءاً من هذه الشراكة. فقد اعترف وزراء كل دول «آسيان» العشر، إلى جانب أستراليا والصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، أنه رغم عدم تمكن الهند في الوقت الحالي من التوقيع على اتفاق الشراكة، مازال الباب مفتوحاً أمام نيودلهي لتنضم إلى باقي الدول.
وأقرت دول «آسيان» بـ «الأهمية الاستراتيجية في انضمام الهند في نهاية المطاف إلى اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة لإقامة منطقة تتمتع بسلاسل اقتصادية لإضافة القيمة أوسع وأعمق لنفع كل الناس في المنطقة». وجاء في إعلان الوزراء أن الاتفاق مفتوح أمام دخول الهند، وأنه يمكن بدء المفاوضات بعد أن تتقدم الهند بطلب كتابي تعرب فيه عن رغبتها في الانضمام. وأعلنت الهند قرارها بالانسحاب من اتفاق التجارة متعدد الدول في القمة الثالثة للاتفاق في نوفمبر العام الماضي. ففي هذه القمة، أخبر رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» الزعماء أن «ضميره» لا يسمح له بالانضمام. والطريقة التي تنظر بها الهند للاتفاق لم يطرأ عليها تغيير منذئذ.
وقرار الخروج من مفاوضات الاتفاق اُتخذ على أعلى مستوى وكان بمثابة دعوة سياسية بعد معارضة داخل الهند من عدة صناعات خشيت فتح الأسواق أمام القوى التجارية الآسيوية. لكن هناك عدة عوامل ساهمت في قرار الانسحاب. ومن بين هذه الأسباب العجز التجاري الذي تواجهه الهند. فقد رفض 12 من 15 دولة موقعة على الاتفاق القيام ببحث قطاع الخدمات الذي يتضمن انتقال العمال والمتخصصين. وهناك أيضاً مخاوف بشأن قواعد بلد المنشأ والحواجز غير الجمركية. وظهرت معارضة قوية من جماعات التجارة الهندية والشركات المحلية في قطاعات معينة، مثل قطاع منتجات الألبان التي خشيت التضرر من دخول شركات منتجات الألبان الأجنبية. لكن السبب الرئيسي هو خوف الهند من فتح أسواقها أمام دول، والتي تعاني الهند في مقابلها من عجز تجاري هائل. وخشيت الصناعة الهندية أن يؤدي خفض الرسوم إلى أن تغرق السلع الآسيوية الأسواق الهندية وتفاقم العجز التجاري.
والهند ضعيفة في السلع لكنها قوية في الخدمات ولذا جادلت بأن التفاوض بشأن الخدمات يجب أن يحظى بأهمية مماثلة في المفاوضات لتلك التي حصلت عليها السلع. ووافق مجلس الوزراء الهندي في الأيام القليلة الماضية على مقترح يقدم حوافز تتعلق بالإنتاج تبلغ 1.45 تريليون روبية للمصنعين في عشرة قطاعات تتضمن السيارات والعقاقير والمواد الغذائية. والحكومة تبحث عن وسائل أخرى للشركات الهندية لتنضم إلى السلسلة العالمية.
ويؤكد مودي منذ فترة طويلة على سياسة الهند في الاعتماد على نفسها حيث تستطيع وضع القواعد وترسيخ قدمها «كقوة قومية كبيرة» وخشى من اتفاقات التجارة الحرة. ورغم هذا، اتفقت الهند ودول آسيان على البحث عن وسائل لتعزيز التجارة في القمة الافتراضية السابعة عشرة للهند و«آسيان» التي حضرها رئيس الوزراء «مودي». والآن يأمل الموقعون على «اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» أن يساعد الاتفاق في الدفع نحو التعافي الاقتصادي من جائحة فيروس كورونا. والدول الأعضاء ستتخلص تدريجياً من الرسوم الجمركية في غضون 20 عاماً. وتضمن الاتفاق أيضاً بنوداً تتعلق بحقوق الملكية الفكرية والاتصالات والخدمات المالية والتجارة الإلكترونية.
فهل تستطيع الهند النأي بنفسها، إذا تحرك العالم نحو تعدد الأطراف مع تغير السلطة في الولايات المتحدة؟ فقد يستطيع الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إعادة «اتفاق الشراكة عبر الهادئ». وفي إطار هذا الاحتمال قد تجد الهند نفسها متخلفة إذا لم تلتحق ببعض اتفاقات التجارة متعددة الأطراف. وتواجه الهند بالفعل ضيقاً في سلاسل الإمداد ومن المحوري بناء روابط عالمية قوية. وإذا أصبح تعدد الأطراف هو التوجه العالمي السائد، فقد تجد الهند نفسها في مرحلة ما تعيد النظر في «اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، أو أي تكتل تجاري كبير آخر.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية في نيودلهي.