في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «المجتمعات المتداخلة.. العالم لم يعد جيوسياسياً»، يذهب المفكر السياسي الفرنسي «برتراند بادي» إلى أن معادلة النظام الدولي الحالية لم تعد تحكمها معطيات صراع القوة والنفوذ العسكري، بل محددات التداخل الاجتماعي والترابط العضوي بين الثقافات والمجتمعات. وتبدو هذه الحقيقة أولاً في تراجع الملفات العسكرية والاستراتيجية في الأجندة الدولية التي تتقدم فيها راهناً الأزمات الاقتصادية والمناخية والأوبئة عابرة القارات، على اعتبارات الصراع الجيوسياسي أو العسكري. كما أن منطق الدولة السيادية الذي حكم العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا منذ منتصف القرن السابع عشر، لم يعد فاعلاً ولا حاسماً في المنظور العالمي الجديد، حيث أخذت الشركات متعددة الجنسيات وشبكات التواصل الإلكترونية والجمعيات والمنظمات غير الحكومية مكان السياسي والعسكري، وأصبح لها أقوى التأثير في العلاقات الدولية.
في السابق، كان الحقل السياسي هو محور الديبلوماسية العالمية، ولم تكن الموضوعات الاجتماعية تتجاوز الأبعاد المحلية الضيقة، أما اليوم فقد تراجعت مكانة السياسة في المعادلة الدولية، وأصبحت المحددات الاجتماعية هي الموجهات المركزية للنظام العالمي. وفي هذا السياق يؤكد بادي، ببعض التهكم، أن الحروب العالمية السابقة كانت تحددها صراعات القوة، في حين أن الحروب الحالية تتحكم فيها معادلة الضعف والهشاشة، بحيث لم تعد الآليات العسكرية حاسمة في نمط الصراعات الجديدة.
لو حاولنا تقويم نظرية بادي في السياق الشرق أوسطي الجديد، لأمكننا التنبيه إلى معطيات ثلاث أساسية، هي:
أولاً: إن مشاريع النفوذ الإقليمي المعتمدة على محض القوة العسكرية قد أظهرت حدودها الموضوعية، بداية من مشروع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الذي انهار بعد مغامرة احتلال الكويت وما تلاها من حصار شامل قوض أركان الدولة وهياكل المجتمع قبل أن ينكسر النظام السياسي بعد التدخل العسكري الأميركي عام 2003. وقد وصلت إيران إلى المأزق نفسه، إثر مغامراتها الفاشلة في المنطقة وإنفاقها غير العقلاني على التسلح النووي، وهو المأزق ذاته الذي واجهته تركيا التي أخفقت في مشروعها للهيمنة على المنطقة بقوة سلاح المليشيات الحليفة لها.
ثانياً: لقد أثبتت التجربة العملية الجلية في العالم العربي أن محور النفوذ والتأثير انتقل إلى البلدان التي اعتمدت مسلك التنمية الاقتصادية والاستثمار في التقنيات الجديدة والانفتاح الثقافي وتحصين المجتمعات من الداخل. ولا شك أن تجربة دولة الإمارات مثال بارز على إمكانية توظيف القوة الناعمة من أجل التأثير الفعال في الأجندة الإقليمية والدولية.
ثالثاً: لقد برزت أنماط جديدة من الديبلوماسية العالمية، لا تزال بلداننا بحاجة إلى اعتمادها وتطويرها. ومن أهم هذه الأنماط الجديدة من الديبلوماسية ما يتعلق بالوساطة في الحروب الأهلية والصراعات الداخلية التي لا يمكن أن تحسم بالورقة العسكرية. ومن أبرز نماذج الديبلوماسية الاجتماعية التي تبنتها الدول المؤثرة في النظام العربي خيار الوساطة بين الفرقاء الليبيين، الذي ساهمت فيه مصر والإمارات والمغرب بعد إفشال مشروع السيطرة التركية على ليبيا من خلال الدعم العسكري المباشر للمليشيات المهيمنة في الغرب الليبي. كما أن الديبلوماسية الدينية تشكل اليوم أحد أوجه العمل الديبلوماسي الأساسية، نتيجة لتزايد وتيرة العنف المرتبط بالجماعات المتشددة والحروب الأهلية ذات الجذور الدينية، ومن ثم أصبح لرجال الدين وللمؤسسات الدينية دور فاعل في مقتضيات السلم العالمي.
ويلاحظ برتراند بادي أن منطق العمل الديبلوماسي لا بد أن يتعامل مع السمة الحركية المتنقّلة للمجتمعات الحديثة، كثافة الأسفار اليومية وحركة الهجرات الواسعة لأسباب اقتصادية ومناخية.. بما يجعل مفهوم التواصل أو التبادل هو محور خريطة العلاقات الدولية الجديدة، وليس معايير الصراع والتنافس.
في عالمنا العربي أصبحت هذه الحقيقة راسخةً، خصوصاً بعد استفحال الأزمات الداخلية في عدد من البلدان العربية (العراق وسوريا واليمن وليبيا..) بحيث تحولت الكتل البشرية اللاجئة إلى مكون ثابت في النسيج الوطني لبعض البلدان العربية. إن هذه الظاهرة الحركية التي قذفت بعشرات الآلاف من العرب إلى أوروبا في السنوات الأخيرة تفرض إعادة تصور الأنماط الديبلوماسية المناسبة لها، في ما وراء اعتبارات الديبلوماسية السياسية التقليدية.
ما يخلص إليه بادي، هو أننا نعيش راهناً نهاية مفهوم «الهيمنة» hegemony الذي طبع النظام الدولي القطبي المندثر وحدد أطر العلاقات الدولية ودور الدول والمجموعات الإقليمية في الخريطة الجيوسياسية العالمية. وفي مقابل الهيمنة، أصبح المفهوم المركزي اليوم في العلاقات الدولية هو الترابط والتداخل، ومن ثم فإن من يتمتع بعناصر القوة التي يقتضيها التفاعل الحي مع مكونات العالم الجديد هو من سيكون له الدور المؤثر في عالم الغد.