لا خلاف بين ابن رشد والأشاعرة حول صفات الله تعالى، فالصفات قديمة عند كليهما، بل إن ابن رشد يصوّب الأشاعرة في اعتبار الحياة شرط القدرة، ويعتبر كلام الله قديماً (مثل الأشاعرة) وليس حادثاً (كما قال المعتزلة). والقرآن هو المعنى كما هو الحال عند الأشاعرة وليس اللفظ كما هو الحال عند المعتزلة. ظن المعتزلة أن الكلام هو اللفظ، فقالوا بخلق القرآن. كما أنكر المعتزلة المعنى القائم للنفس، وأنكر الأشاعرة اللفظ القائم بالفعل.
ولا ينفي ابن رشد الصفات الحسية كما نفاها المعتزلة، ولا يثبتها كما أثبتها الأشاعرة، لكنه يقدم تمثيلاً أو صورة فنية يضرب الله بها الأمثال كما في قوله تعالى: «الله نور السموات والأرض»، والنور صورة وليس تصوراً أو حكماً. الصورة تثير النفس وتبعث على الخيال.. إنها أقرب إلى القول الخطابي منها إلى القول البرهاني. وفي الرؤية التي ينفيها المعتزلة ويثبتها الأشاعرة، نجد أن ابن رشد أقرب إلى إثباتها مثل الأشاعرة. كما ينفي المعتزلة الجهة ويثبتها الأشاعرة، وابن رشد أقرب إلى الإثبات منه إلى النفي.
وفي القضاء والقدر، يرفض ابن رشد -كالأشعري- الموقفين النقيضين، أي الجبر (لدى الجهمية) وخلق الأفعال (لدى المعتزلة)، ويأخذ موقف الشارع.. «ليس قصده تفريق هذين الاعتقادين، وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة». والله هو سبب الأسباب. وهذا هو معنى القضاء والقدر، وما كتب في اللوح المحفوظ، ومعرفة الأسباب (بمعنى المسببات) جزء من العلم بالغيب. الله يفعل من خلال النفوس والطباع والقوانين. لذلك فالأسباب مؤثرة بإذن الله، وإلا بطل العلم وانتفت الحكمة. العلم معرفة الأشياء بأسبابها المباشرة، والحكمة معرفة الأشياء بالأسباب الغائية أي بالعلة الأولى. وعلى هذا لا تعارض بين العلم والدين، بين البحث عن العلل المباشرة والعلة غير المباشرة، بين العلة الثانية والعلة الأولى. فالقول بالطباع وحدها إنكار للخلق الإلهي، والقول بالفعل الإلهي وحده إنكار للطباع. ومن ثم يخطئ المعتزلة والجبرية كطرفي نقيض، والحقيقة على التوسط.
كما نجد أنه على التوسط أيضاً بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الجور والعدل، دون أن يجعل الحسْن والقبح من إرادة الله أمراً ونهياً كما يفعل الأشاعرة، ولا من العقل كما يفعل المعتزلة، بل على الفطرة، والفطرة من خلق الله.
وفي المعاد وأحواله، ابن رشد على التوسط أيضاً بين الفلاسفة الذين يقولون بالمعاد الروحاني والحشوية الذين يقولون بالمعاد الجسماني، ويقول بنفي المماثلة بين الدنيا والآخرة. فهو مَعاد ليس مشابهاً للنعيم أو العذاب الجسماني.
وفي النبوة، يرفض ابن رشد إثباتها بالمعجزة بطريقة الأشاعرة أو بطريق الجواز العقلي القائم على أدلة برهانية.. لكنه يثبتها بالإعجاز، أي إعجاز القرآن، وهو تحدي القدرات البشرية على الإبداع. وهذا معنى لا يفترق كثيراً عن المعجزة إلا بالسلب. فالمعجزة تدل على قدرة الله والإعجاز يدل على عجز الإنسان، وهي مقدمة بيانية شبيهة بمقدمات الأشاعرة.
ولذلك يظل السؤال مطروحاً: هل ابن رشد تأويلي أم ظاهري؟
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة