برهنت حرب أذربيجان -أرمينيا سريعاً على سهولة نقل التوتّرات من الشرق الأوسط إلى جنوب القوقاز، فالمنطقتان أظهرتا عبر سوريا ترابطاً عبر الدول المتدخّلة، تركيا وإيران وروسيا، لكن أيضاً بانخراط مقاتلين من آسيا الوسطى في تنظيمات متشدّدة وإرهابية مثل «القاعدة» وفروعها («داعش» و«جبهة النصرة»). في المقابل قدّم الانتشار الأرميني متطوّعين من لبنان وسوريا وبلدان أخرى. موسكو وطهران راقبتا تطوّر الاشتباك الميداني، بشيء من التحفّز والإحراج والدعم السياسي لأرمينيا، أما أنقرة فلم تكتفِ بالدعم العسكري لأذربيجان بالأسلحة النوعية والمقاتلين المرتزقة، بل أشرفت على إطلاق عمليات قتالية حول إقليم «ناغورني قره باغ» المتنازع عليه سياسياً طيلة الحقبة السوفييتية وعسكرياً غداة انهيار ذلك الاتحاد أوائل تسعينيات القرن الماضي.
لم تتحرّك روسيا والولايات المتحدة وفرنسا، أي «مجموعة مينسك» (على اسم عاصمة بيلاروسيا) المعنية بالنزاع، إلا في نهاية الأسبوع الثاني من المعارك بعدما تصاعد «خطر المرتزقة والإرهابيين»، بحسب رئيس المخابرات الخارجية الروسية، كذلك بعد ما حذّر الرئيس الإيراني من «وجود إرهابيين» على حدود بلاده، ومن قتال قد يصبح «حرباً إقليمية»، ما عنى احتمالات تدخّل مباشر أوسع. لذلك أمكن التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، وسط شكوك بإمكان صموده إذا لم تبادر دول المجموعة إلى طرح مبادرة متكاملة لحل تفاوضي.
ومن الواضح أن الأطراف جميعاً تحمّل تركيا مسؤولية فتح الملف الملتهب، بداعي الروابط اللغوية والثقافية مع أذربيجان، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والنفطية (أنبوب باكو -تبيليسي -جيهان)، بالإضافة إلى طموحات أردوغان واستعراضات القوة التي يجريها خارج الحدود في سوريا والعراق، وأخيراً في ليبيا وأذربيجان. تحدّت أنقرةُ روسيا وإيران، وأزعجت حلفاءها في «الناتو»، كما استثارت الاتحاد الأوروبي الذي بات أكثر ميلاً إلى تشديد العقوبات عليها. وأكثر من ذلك، تعتبِر أنقرة أن «مجموعة مينسك» غير مؤهلة لحل النزاع، وبالتالي فقد حضّت باكو على مواصلة الحرب لإحراز مزيد من المكاسب على الأرض، وعلى التصلّب والمماطلة إزاء الضغوط الدولية.
وكانت «مجموعة مينسك» تسلّمت إدارة النزاع على «ناغورني قره باغ» غداة حرب 1991 بين البلدين، بهدف إيجاد حل دائم. صحيح أن القرارات الدولية تعترف بالإقليم كجزء من أراضي أذربيجان، لكن غالبية سكانه أرمن. لم تتقدّم دول المجموعة في مساعيها وأهملت الملف لنحو ثلاثة عقود، وعندما تجدّد القتال في 2014 و2016 تحرّكت سريعاً لوقفه بسبب انشغالها بأزمات أخرى باعدت بينها، كسوريا وأوكرانيا.. وهكذا فتحت ثغرة للتدخّل التركي.
ربما تعتقد أنقرة أنها فرضت نفسها شريكاً دولياً في إنهاء الحرب، لكن روسيا وفرنسا تعتبران أن طبيعة التدخّل التركي أضافت إلى النزاع تعقيدات ظهر بعض مفاعيلها وستستمر تداعياتها لاحقاً. فمن جهة، ستحرص روسيا على إبعاد تركيا عن مجالها الحيوي في جنوب القوقاز، كما أن التناقض الفرنسي التركي سيزداد تفاعلاً في صنع سياسات الاتحاد الأوروبي، إلا إذا كانت لواشنطن أهداف أخرى غير معلنة. في هذا الأثناء تواجه «مجموعة مينسك» إشكالية مركّبة: حق أرمن الإقليم في تقرير مصيرهم، وحق أرمينيا في نصرتهم، وحق أذربيجان في أرضها باعتراف القانون الدولي. هذه إشكالية تتطلّب حلّاً تفاوضياً صعباً ومركّباً كذلك، والأهم أن يكون قابلاً للتحوّل إلى سلامٍ دائمٍ.