أصبح من المسلمات أن ابن رشد من أنصار التأويل، شأنه في ذلك شأن جميع الفلاسفة (مثل ابن سينا خاصة) والمتكلمين (المعتزلة خاصة) والصوفية (الغزالي وابن عربي نموذجاً)، ولقد أضاف ابن رشد في نهاية «الكشف عن مناهج الأدلة» خاتمة في «قانون التأويل»، وهو الذي يؤول النظر في آيات القرآن على أنها الحكمة، ولا يرفض تأويل الفلاسفة لآيات أربعة في القرآن توحي بـ«قِدم العالم»، منها «وكان عرشه على الماء»، و«ثم استوى على السماء وهي دخان»، وكان القول بالنعيم والعذاب الروحانِيَّين عند الفلاسفة (خاصة ابن سينا) خشيةَ الوقوع في التجسيم المادي والتشبيه الحسي، ولا تكفير للمتأولين، حتى عند الغزالي، لأن التأويل ليس خروجاً على الإجماع إذ لا إجماع فيه، وإذا ما تعارض البرهان مع ظاهر الشرع يؤول الشرع، فالتأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية دون إخلال باللسان العربي، والقصد من ذلك هو التوفيق بين المعقول والمنقول، ويجوز التأويل للإجماع إذا تم على نحو ظني وليس بحكم يقيني عقلاً وشرعاً.
ولا يجوز إخراج التأويل الفلسفي أو الكلامي أو الصوفي لمن هو غير أهل له مثل العوام، كما أوضح الغزالي في كتابيه «إلجام العوام عن علم الكلام» و«المضنون به على غير أهله»، لذلك لا ينبغي التصريح بالتأويلات للجمهور، ولا يعلم التأويل الحق إلا الله، لا الجمهور ولا العلماء، لا العامة ولا الخاصة، لا المتكلمون ولا الفلاسفة، التأويل في غيره موضعه كالدواء في غير محله، يضر أكثر مما ينفع، وقد تتراكم التأويلات وتتضارب فيما بينها حتى يغيب النص الظاهر ولا يبقى إلا تأويلاته، يختفي الجوهر ولا تبقى إلا الأعراض، وهذا هو معنى حديث الفرقة الناجية وافتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.
والحقيقة أن قانون التأويل يجعل ابن رشد ظاهري الاتجاه أكثر منه مؤولاً، وبالرغم من نقده للحشوية واعتبارها من الفرق الضالة، فإنه في نفس الوقت يبدو ظاهري الاتجاه، يرفض تأويلات المتكلمين والفلاسفة والصوفية، لأنها ضد ظاهر النصوص، ويرفض تأويلات شراح أرسطو (يوناناً ومسلمين) لأنها ضد ظاهر قول أرسطو، واللجوء إلى ظاهر القول يخلص تأويل المتكلمين للقرآن، ويخلص أرسطو من سوء تأويل الشرّاح، العودة إلى قول أرسطو، وتفسير أرسطو بأرسطو، وإنقاذه من بين أيدي الشرّاح، هو تفسير الكتاب بالكتاب وليس بالعقل، وإذا اختلف الشراح حول المعنى، فإنه يؤخذ أقرب المعاني إلى اللفظ، وأكثرها تطابقاً مع النص.
وأول من سار في وادي التأويل الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، وفي كتابه «مناهج الأدلة»، يرفض ابن رشد تأويلات الأشاعرة للإرادة (حادثة أم قديمة؟)، لأنها أمور لم يأت بها ظاهر الشرع، ولا هي أمور شرعية يقينية حث عليها الشرع في الكتاب العزيز، كما أن صفات الله السبع عند الأشاعرة، أي العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، مستمدة من القرآن وليست من طبيعة العقل، أي أنها توقيفية وليست استنباطية.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة