في مقالة بصحيفة لفيغارو الفرنسية (13 سبتمبر2020)، يتحدث المؤرخ والباحث السياسي «نيكولاس بافاريز» عن ظاهرة تصدع العالم اليوم إلى جزر متمايزة، معزولة عن بعضها بعضاً، بعد أن ساد انطباع جارف في العقدين الماضيين، بتشكل منظومة معولمة واحدة مندمجة. فإذا كانت ديناميكية العولمة، قد قامت على الدوافع الاقتصادية، فإن انفجارها حالياً يرجع للاعتبارات السياسية وتضارب الثقافات والقيم.
في وصفه للمعادلة الراهنة، يذهب «بافاريز» إلى أن العالم بدأ يعرف نمطاً جديداً من الحرب الباردة، يختلف عن الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الدوليين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
الصراع الراهن يتركز في العالم الرقمي، ويتجلى في صياغات ثقافية وقيمية، ويخترق مختلف منظومات ومجالات الخريطة الدولية المتصدعة.
أبرز مظاهر هذه الحرب الباردة الجديدة، هي الصراع المتفاقم حول النفوذ والتأثير ما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، الذي أفضى إلى تصادم عنيف في المجال السيبرناني والأنظمة الاتصالية والرقمية، إلى حد نجاح الصين في بناء منظومة إلكترونية مستقلة منافسة للشبكة الرقمية التي تتحكم فيها أميركا، بما يعنيه هذا التحول من آثار جيوسياسية واقتصادية نوعية على مسار العلاقات الدولية.
في هذا السياق، ندرك خلفيات القرار الأميركي الأخير تحريم تطبيقي «تيك تيوك» و«وي شات» الصينيين، والعقوبات المفروضة على الشركة الصينية هواوي السباقة عالمياً في توفير خدمة الجيل الخامس للإنترنت.
في الباب ذاته، نشير إلى جهود الصين إنشاء منظومة تبادل نقدي وتجاري منافسة لمنظومة الدولار، تتمحور حول عملتها «اليوان الرقمي»، مستقطبة محيطها الآسيوي المباشر، ومستثمرة تمددها التجاري السريع في العالم، عبر مشروعها الطموح لإحياء «طريق الحرير» بأدوات واستراتيجيات جديدة.
ومع أن «بافاريز» يركز في مقاربته للصراع الأميركي- الصيني على الاعتبارات الاقتصادية والتقنية، مع الإشارة إلى التباين في طبيعة النظام السياسي، فإنه يغفل السياق الفكري والنظري لهذا الصدام بين الديناميكية القومية السيادية، التي يدافع عنها الرئيس الأميركي ترامب في استناده للقيم الليبرالية الأميركية، والخطاب الحضاري الجديد للنخب الصينية الجديدة في صياغتها لنمط من «الليبرالية الآسيوية»، التي تختلف في مرجعياتها ومحدداتها السياسية والمجتمعية عن الحداثة الغربية، وإن نافستها في انتزاع قلب المنظومة الاقتصادية العالمية.
بيد أن «بافاريز» يرى أن هذا التصدع الذي يعرفه عالم اليوم، ينعكس بالحدة نفسها في السياقات الإقليمية، مشيراً إلى بروز قطب آسيوي منافس للصين يتمحور حول الهند، التي اقتربت في السنوات الأخيرة من اليابان وكوريا وتايوان وأستراليا ونيوزيلندا، في إطار سعيها لكبح وتطويق النفوذ الصيني المتزايد في العالم.
إنه التصدع نفسه الذي تعرفه أوروبا اقتصادياً ما بين جنوبها وشمالها، وسياسياً ما بين شرقها وغربها، كما تعرفه منطقة الشرق الأوسط في الصراع الدائر بين البلدان العربية والقوتين الإقليميتين التركية والإيرانية.
ما يتعين التنبيه إليه هنا، هو أن أطروحة «بافاريز» تندرج في إطار النقاش الاستراتيجي الجديد حول طبيعة النظام العالمي ومحدداته البنيوية وموجهاته المرجعية، بعد بروز إشكالية راهنة أساسية هي تصدع المنظومة الليبرالية العالمية في بعديها الاقتصادي والسياسي، بعد أن كان ينظر إليها كمجال مندمج وموحد.
فإذا كان النقاش الذي تلا نهاية الحرب الباردة دار حول الأبعاد الثقافية والحضارية في العلاقات الدولية، امتداداً للتنازع الأيديولوجي الذي طبع حقبة الباردة، فذلك لأن العامل الثقافي اختزل في طابع الخصوصية والهوية الذاتية، الذي هو في نهاية المطاف بعد أيديولوجي لا يتناسب والمقاربة الكونية المفتوحة للثقافة، كرؤية العالم وكنسق قيمي إنساني. ومن هنا بدت أطروحة «الصراع الحضاري» هزيلة معرفياً، رغم توظيفاتها السياسية التي وصلت حد تبنيها من الجماعات الإرهابية والأصولية الراديكالية.
الإشكالية الراهنة لا تتعلق، إذن، باصطفاف حضاري أو ثقافي، رغم الشعارات السائدة، بل بتصدع داخل منظومة العولمة الليبرالية. فإذا كانت الليبرالية الكلاسيكية راهنت منذ آدم سميث على دور التجارة في توحيد العالم وتنميط شكل الوجود البشري، فإن التحولات الراهنة أثبتت أن اعتبارات الهوية القومية والمصالح السيادية لا يحكمها منطق التكامل والشراكة. ومن وجه آخر، أثبتت التحولات الأخيرة أن وحدة النظام السياسي وآليات التمثيل والحكم لا يتولد عنها ضرورة وحدة الثقافة السياسية، بما ينعكس بجلاء في قلب أوروبا نفسها التي تتصادم فيها أشكال متباينة من نظم الحكم السياسية.
وحاصل الأمر، إن ما يشهده عالم اليوم من تصدع وصراع دولي، ليس ناتجاً عن التباين في الخيارات السياسية والاقتصادية، ولا عن تضارب في الهويات الحضارية، وإنما هو صراع داخل منظومة عالمية واحدة، وفق محدداتها وقواعد التنافس الداخلية فيها، ومن هنا تَعقّده وصعوبة التفاعل معه.