هل نشهد راهناً، مع تزايد وتيرة الحركات الشعبوية شرقاً وغرباً، نهاية الحركة النخبوية في العمل السياسي وانتقال الديناميكية السياسية إلى القاعدة الاجتماعية العريضة التي تحركها الأهواء والعواطف والشعارات؟ يبدو من واقع الديمقراطيات العريقة في الغرب، والديمقراطيات الوليدة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، أن النزعات الشعبوية المناوئة للنخب السياسية والاجتماعية قد تزايد تأثيرها، وتوطدت هيمنتها في الموازين الانتخابية ومراكز القرار والسلطة.
الأنماط الجديدة من الحكام الذين أوصلتهم صناديق الاقتراع للسلطة، هم في غالبهم من خارج الحلبة السياسية التقليدية، من رجال الأعمال والنقابيين والموظفين الإداريين البسطاء. أما السياسيون المحترفون وقادة الأحزاب وصناع الرأي والفكر، فقد تراجعت حظوظهم ومواقعهم في الخارطة السياسية ودائرة الحكم.
في بعض الساحات، كما هو الشأن في بعض الدول العربية التي عرفت مؤخراً انتقالاً ديمقراطياً متأزماً، انهارت النخب السياسية التي بنت دولة الاستقلال وقادت عملية التنمية، وكان أثر انهيار البيروقراطية الوطنية فيها مأساوياً على حالة الاستقرار الأهلي والمكاسب التنموية.
السؤال المطروح في هذا السياق يتعلق بالقاعدة الاجتماعية للديمقراطية: هل هي الجمهور المشتت الذي يشعل الثورات، ويقود حركة التمرد، أم النخب القادرة على تسديد عملية التغيير وتوجيهها إيجابياً؟
برز الإشكال مبكراً في الفكر الليبرالي، وانتهى عبر حوار طويل إلى نظرية التمثيل الانتخابي التي حاربتها الأفكار الثورية الكلاسيكية، واعتبرتها مسلكاً للالتفاف على سيادة الشعب لصالح الفئات الحاكمة والمتنفذة.
بيد أن الثوريين اليساريين خلصوا، بعد جدل نظري وأيديولوجي طويل، إلى أن عملية الصراع السياسي تقتضي الاعتماد على نخبة ثقافية وسياسية تقود حركية النضال. لعل أول من بلور هذا التصور هو الزعيم السوفييتي «لينين» في كتابه «ما العمل؟» الصادر عام 1902 الذي توقف فيه عند مصاعب التغيير الراديكالي في المجتمع الإقطاعي الروسي، الذي لا توجد فيه طبقة برجوازية قادرة على فرض التحول الاجتماعي، بما يقتضي إنشاء جهاز حزبي له «طليعة» مؤهلة لقيادة حركية الصراع الطبقي.
ولقد طور الفيلسوف الماركسي الإيطالي «غرامشي» هذه الأطروحة، من خلال نظريته في «المثقف العضوي» القادر على صياغة الحس المشترك الجماعي وتحويله إلى وعي طبقي ناجع يخرج الجموع «المستلبة» من «سباتها الدوغمائي».
والمعروف أن هذه الأطروحة نفذت بقوة في الخطاب اليساري العربي في شقيه القومي العربي والماركسي، ومن أبرز من دافع عنها المفكر المصري أنور عبد الملك في كتابه «الجيش والحركة الوطنية»، الذي دعا فيه إلى تحالف الطليعة العسكرية والطليعة المثقفة للإسراع في حركية التغيير الاجتماعي الثوري.
من النتائج الكبرى لهذا التوجه الفكري، انفتاح المثقف اليساري على التقليد الديني والثقافي للجمهور، بصفته حقلاً لإدارة الصراع الطبقي على المستوى النظري (حسب مقولة الفيلسوف الماركسي الفرنسي لويس التوسير). ومن هنا ندرك ميل العديد من مفكري اليسار العربي إلى المسألة التراثية لخوض معركة الوعي على أرضية الاعتقاد الجماعي.
سألت مرة المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري: لماذا انتقل من الاهتمامات الإبستمولوجية التي طغت على أعماله الأولى، إلى الحقل التراثي الذي استأثر بجل إنتاجه الفكري: فاعترف لي أن سبب هذا التحول هو الشعور بأن حسم صراع الوعي الشعبي العام يتطلب استخدام أدوات ومقولات التقليد التراثي التي تصنع رؤية العالم لدى الجماهير العريضة وتحدد خياراتهم ومواقفهم.
كان رأي الجابري، هو أن عملية التغيير السياسي المنشود لا يمكن أن تتم عن طريق الطوبائية الثورية (ومن هنا تقويمه النقدي الصارم لتجربة الزعيم الاشتراكي المغربي المهدي بن بركة)، ولا عن طريق «الانتظار الديمقراطي»، وإنما من خلال ما سماه بالكتلة التاريخية، أي التوافق بين القوى الحاكمة والنخب المثقفة، وفق مسار انتقالي متدرج يجنب الدول الهشة مخاطر التغيير الثوري غير الآمن، بحسب النموذج الجنوب الأفريقي.
*أكاديمي موريتاني