في الحضارة الإسلامية، حاول المعتزلة عن طريق التأويل، الحفاظ على «التنزيه، كما حاولوا الدفاع عن حق الإنسان في كمال العقل واستقلال الإرادة.
كما دافع الفلاسفة عن التنزيه، انتقالاً من الذات والصفات والأفعال إلى واجب الوجود، ومن الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا، ومن الحجج النقلية إلى الأدلة العقلية، ومن السجال والجدال إلى الدليل والبرهان.
وجعل الأصوليون المصلحة أساس التشريع، وكما يؤول النقل لصالح العقل في حالة التعارض، كذلك يؤول النقل لصالح المصلحة في حالة التعارض، ووضعوا قواعد أصولية تأكيداً لهذا المبدأ، مثل: «لا ضرر ولا ضرار»، «الضرورات تبيح المحظورات»، «عدم جواز تكليف ما لا يطاق»، و«العادة محكّمة».
وأخيراً، فضّل الصوفية العودة إلى مصدر النص الأول، وصولاً إلى المرسِل بعد تلقي الرسالة، والنهل من النبع الأول وليس من المصب، فالرسالة علامة دالة، والغاية الدلالة وليست العلامة، ومَن ينهل من نبع النص، يفهم النص من أصله، من المعنى وليس من اللفظ، من الدلالة وليس من المدلول، مباشرةً دون توسط اللغة.
مهمة التأويل هي القدرة على تحريك المستويات، والانتقال من مستوى إلى آخر، وغالباً ما يكون الانتقال من السماء إلى الأرض بلغة الشرق، ومن الإلهيات إلى الإنسانيات بلغة الغرب، فقد قام كونفوشيوس بقراءة جديدة لكتاب «التغيرات» (كتاب الصين المقدس) من أجل تحويل الدين الإلهي إلى دين إنساني، وتعدد الآلهة إلى مبادئ خلقية عامة تضع قواعد للسلوك لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الفرد وغيره.
إن التأويل هو القاسم المشترك بين الحضارات، لا تكاد تخلو أي حضارة منه، وهو عصب الحضارة وعمودها الفقري، تتجمع فيه نظرية المعرفة وأساليب الحراك الاجتماعي، لا تقطع مع الماضي، كما هو الحال في الاتجاهات العقلية الجذرية والحداثية وما بعد الحداثية، بل تتواصل معه وتعيد قراءته، تطويراً للماضي وتأصيلاً للحاضر، وتحقيقاً للتغير من خلال التواصل. تتوحد فيه المناهج اللغوية والتحليلية والظاهراتية (الفينومينولوجية) حتى أصبح علم الهرمنيطيقا هو أهم ما يميز الفلسفات المعاصرة، بل إن اللسانيات وعلومها مثل السميوطيقا والسمانطيقا والأسلوبية.. كلها تدخل ضمن علوم التأويل. ونظراً لمركزية النص في الفكر الغربي المعاصر وفي التراث الإسلامي، برزت علوم التأويل وكأنها هي العلوم بالأصالة، واقتربت الفلسفة من الأدب في علم النص: قراءة النص، تأويل النص، رواية النص، لذة النص، التناص.. إلخ.
أعاد التأويل إلى الفلسفة الغربية حيويتها وقدرتها على التأمل والتساؤل والتفلسف من جديد، منذ «التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت و«الآلة الجديدة» لبيكون، لم يقدم مذاهب فلسفية مغلقة، ولا أنساقاً فلسفية تفسر كل شيء، بل أعطى منهجاً للتفكير والبحث، يغوص في أعماق النص فيكتشف أعماق النفس، ويبصر آفاق العالم، كما أعاد إلى الفكر العربي الإسلامي حيويته، ودفعه إلى تأسيس نهضة عربية ثانية، تبدأ من تأويل النص، بدلاً من القطيعة معه، أو الإغراق فيه.
التأويل قادر على الحوار بين الماضي والحاضر، بين الفرق المتنازعة.. يقوم على الاشتباه، رغم بحثه عن الإحكام، لا يرفض أحداً، بل يحاور كل الناس، يعود بالناس إلى تواضع العارف، بعيداً عن غرور المعرفة.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة