الثوابت في غالب العلوم والفلسفات والأديان قليلة، وقلتها عددياً لا تعني بحالٍ قلة قيمتها، فثوابت الدين هي الأصول والمبادئ، وتكاد السياسة أن تكون بلا ثوابت ولا أصول، سوى المصلحة بتجلياتها، والأديان التي ضخمت الثوابت واستكثرت منها، انكسرت وانقلبت لأشكال مختلفة، والسياسات التي تحيل المتغيرات لثوابت، تخسر على الدوام.
جاء في الأثر أن الأعرابي كان يأتي للرسول الكريم، ويتعلم منه الدين كله في جلسةٍ واحدةٍ يعرف فيها أركان الإسلام والإيمان، ويرجع إلى قومه، فيشهد له الرسول بالجنة، وهي الفكرة السهلة التي تنسف كل التضخم الذي طرأ على الإسلام فيما بعد، من تضخيم لحجم الثوابت وادعاء كل فرقة بأن لديها ما يميزها عن غيرها، ولأنه ما يميزها، فهي تجعله أحد أكبر أصول الدين، بعد أن لم يكن كذلك من قبل.
ومثل هذا في السياسة، ولنأخذ هنا القضية الفلسطينية كمثالٍ، فقد اجتهد القادة الفلسطينيون، في سبيل تقديس القضية، إلى جعل كل شيء يتعلق بها من الثوابت الدينية والقومية والثقافية والسياسية، وهو ما يفسر استمرارية الفشل الذريع في كل المراحل تقريباً، والشعارات التي كانت تطلق على مدى عقودٍ باختلافاتها، كان كل طرفٍ فلسطيني أو عربي أو مسلم يريد أن يميز نفسه عن غيره، يجعل ما يميزه من الثوابت السياسية، ومن يستحضر صراعات التيارات الفلسطينية ونكباتها وخيباتها، يسهل عليه استيعاب هذا السياق.
اعتماد ثوابت للسياسة معيق للتعامل مع متغيراتها، وسياسة الإصرار على تلك الثوابت بعد فشلها وثبوت أنها متغيراتٍ، لا محالة، يسمى بالعناد، أو العناد الاستراتيجي، وهو وصفةٌ ثابتةٌ للفشل، فعناد صدام أسقط دولة العراق، وعناد بعض القادة الفلسطينيين أورثهم الهزائم، واستمروا لعقود في مسلسل الرفض للرفض، حتى فوتوا فرصاً كبرى لحل القضية، ثم رضوا بالقليل، وعادوا سيرتهم الأولى في تضخيم ثوابت السياسة وإهمال متغيراتها، وغير الذكي فقط هو من يجرّب المجرّب مرتين.
الثابت في السياسة هو التطور والانتقال من حالٍ إلى حالٍ، سواء أكان ذلك إيجاباً أم سلباً، والثابت في السياسة هو المصالح بأنواعها وأشكالها، والبقية متغيرات مستمرة وثابتة في التغير والتشكل وإعادة التشكل الدائم، ومن هنا يخطئ كثيراً من يظن أن نماذج السياسة تعبر عن ثوابت يمكن استخدامها، بغض النظر عن المتغيرات، كمن يبشرون بأن النموذج الديموقراطي الغربي هو «نهاية التاريخ»، كما كان قال فوكوياما يوماً، قبل أن يتطور هو الآخر، ويتراجع عن هذه الفكرة المبتذلة.
كل الفلسفات والأفكار والأديان التي تضخمت فيها الثوابت فشلت، وتغيرت رأساً على عقب، وكم بقي الشيوعيون، على سبيل المثال، يبشرون بثبات منهجهم واكتماله وصلاحه لكل زمان ومكان، حتى هدمت كل نماذجه، وأصبحت مثار سخرية أكثر منها مثار جدلٍ مفيدٍ، والنماذج التي يمكن استحضارها هنا كثيرة ومتعددة، ولكن يكفي هنا من القلادة ما يحيط بالعنق.
لا أحد يستطيع تجميد طبيعة البشر ولا منطق التاريخ، ولا تثبيت الماضي ليحكم المستقبل، وكل من فكر، أو حاول أن يجرب صنع ذلك، محكوم بالفشل سلفاً، والغفلة أحياناً عن أفكار سهلة مثل هذه تدخل الدول والمجتمعات والأفراد في أزمات فكرية وتاريخية وسياسية لا تنتهي.
يعتقد كثيرون أن الدين كله ثوابت، وهو خلاف طبيعته، وفي التراث الإسلامي يجد الباحث أن كتب الإجماع لا تكاد تتجاوز المجلد أو المجلدين، بينما كتب الخلاف تملأ الزمان والمكان في كل شيء، تقريباً.
أخيراً، فثوابت الدولة الأموية لم تمكنها من العيش لأكثر من ثمانية عقودٍ، بينما متغيرات الدولة العباسية مكنتها من العيش لأكثر من خمسة قرونٍ.
ـ ـ ــ ـ
*كاتب سعودي