لست أعني بالقلم في سياقي هذا مجرد تلك الأداة العظيمة التي تخط الفكر وترسم الخيال على الورق تسويداً وتأليفًا، وإنما أعني كل حرف رقنه فكر كاتب في شتى وسائل النشر التقليدية أو الجديدة، وقريبًا من المقصود ما قاله ابن المقفع عندما وصف القلم بأنه: (بريد القلب)، أو (طبيب المنطق) كما قال جالينوس، أو ما قاله عمرو بن مسعدة عن الأقلام بأنها: (مطايا الفطن).
أجل إنه القلم تلك الوسيلة العظيمة، التي أقسم الله تعالى بها في كتابه الكريم، ولا يقسم ربنا إلا على عظيم، وهل أحد يشك في عظمة القلم ومدى تأثيره ومنفعته ومقاصده ودوره؟! ناهيك بذلك القلم الذي يتحرك في سبيل الوطن، إذ الذود عن الوطن والدفاع عنه، ليست مهمة مقتصرة على الأرواح والأجساد فقط، فلطالما كانت الأقلام والكلمات رماحًا وأسنة يتقي بها الوطن شر الأعداء، وقد يكون تأثيره أشد على أعداء الوطن، فالقلم الصادق الأمين أشد ما يخيف أعداء الأوطان، لأنه يفضح نواياهم، ويقف بالمرصاد لمكرهم، على حد قول من قال:
جِراحات السِّنان لها التئام.... ولا يلتام ما جَرح اللِّسان
ونحن في مستهل موسم العلم وتخريج أجيال المستقبل، علينا أن ندرك تمامًا أن هذا العلم لا بد أن يكون في خدمة الوطن، ومن إعجاز القرآن الكريم أنه استعمل كلمة «النفير» في أمرين، أحدهما في الدفاع عن الوطن، والثاني في طلب العلم، لأن كلا المقصدين يخدم الوطن، فقال تعالى: (إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)، وقال في العلم: (فلولا نَفَرَ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا). ولا ريب أن من واجب هذا الوقت أن يشعر كل قلم بمسؤوليته، وأمانة الوطن الواجبة في حقه، وأن لا يستهين بتلك الحملات الإعلامية المضللة، والبيانات العُلمائية المزيفة، وتغريدات الحاقدين المزخرفة، المنتشرة هنا وهناك، في وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها، وعلينا أن ندرك خطورة كل ذلك وهدفه، وحرص الأقلام المزيفة على زرع الشكوك واصطياد المتعاطفين، وكثير من تلك الأقلام ليست إلا مستأجرة مرتزقة، كالنائحة الثكلى تبيع كلماتها، ولا تصدر عن قناعة أو مبدأ، وقد قال تعالى: (وترجون من الله ما لا يرجون).
وتلك الأقلام التي تخلفت عن هذا الموعد، هي أقلام لا تعي مسؤوليتها ودورها وانتماءها الوطني، لأن القلم الذي يتخلف عن وطنه، قد رضي بأن يكون مع الخوالف، فما بالكم إذا كانت هذه الأقلام تواجه أقلامًا حاقدة وألسنة كاذبة أشحة على الخير، فلا ينبغي أن تضعف أو تهون وتتخاذل، بل يتعين عليها الشجاعة والبسالة والثبات، وتسطير مواقف وبطولات كشجاعة جنود وطننا البواسل في الميادين.
إن القلم في جانب الوطن لا يكون إلا وفيًّا، محبًا مخلصًا، مدافعًا مثابرًا، ذكيًّا ساهرًا، حاميًا مساندًا، يعبر بصدق عن انتمائه لوطنه وإخلاصه لقيادته، فحروفنا وأقلامنا وسواعدنا لا يمكن أن تكون محايدة في قضايا الوطن الكبرى والصغرى، بل ولا يجوز لها ذلك، بل لا بد أن تكون ناصرة ذائدة، منافحة مكافحة في ميدان الكلمة والحرف، فكل قلم هو جندي من جنود الوطن، يسعى لنيل إحدى الحسنيين. أجل. إنه ذلك البوح الذي يشفي الصدور، ويستنهض الهمم، ويوحد الصفوف، ويرفع المعنويات، ويوضح الحق، ويبيّن ضلال الشبه والادعاءات المغرضة الباطلة، ويقوي العزائم، فأثر القلم يمتد امتداد الزمان فلهذا كان خطره أكبر وأعظم.
ودولة الإمارات يشهد العالم أجمع القريب والبعيد، أنها دولة التسامح والتعايش والشيم النبيلة، والفضائل والأخلاق الحميدة، وتلك أخلاق شعبها وقيادتها، ولكن من تجاسر على ثوابت الوطن، وأعلن عداءه للدولة والقيادة، ومس كرامة بلدنا، فقد أعلن الحرب علينا، وألّب عليها وتجاوز كل الأخلاق والقيم والمروءة، بدافع الحزبية المقيتة، والكره الشديد.
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمواجهة هذه الأقلام الفتاكة حين قال لشاعره حسان بن ثابت: (اهْجُهُمْ وروح القدس معك... والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ فِيهم من النَّبْل) وفيه دلالة على أن الله تعالى ينصر المؤمنين بأوطانهم المدافعين عنها، فقد أدبنا الإسلام بالأدب الحسن، وورثنا من تقاليدنا العربية النخوة والمروءة والسماحة والعفو والصفح وعدم الإيذاء ودفع السيئة بالحسنة، ولكن الله تعالى الذي أمرنا بالقول الطيب الحسن وحضّنا على تلك الأخلاق هو الذي أمرنا سبحانه بأداء هذا الدور الوطني فقال تعالى: (وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)، لأن عدم فعل ذلك مضر بالوطن والمجتمع، كما في حكمة أبي الطيب المتنبي القائلة:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى
إن «القلم الصادق» هو الذي خلف لنا تراثًا ضخمًا من تراثنا التاريخي والديني والأدبي والثقافي، فنجد علمًا خاصًا بتواريخ البلدان للدفاع عنها وإبراز قيمتها، بذكر رجالها ومفاخرها ورموزها، وما قدمته من العلوم للإنسانية، فقد ألّف المحدث الكبير الخطيب البغدادي كتابه العظيم «تاريخ بغداد» وألف ابن عساكر الدمشقي كتاب «تاريخ دمشق»، وكلاهما في عشرات المجلدات، وألف علماء آخرون مؤلفات كثيرة في مكة والمدينة، ولكل بلد مؤلفات تاريخية تحذو هذا الحذو، مما يعبر عن ضرورة أداء القلم دوره في خدمة الوطن في كل زمان ومكان.
وواجب الشكر والثناء لتلك الأقلام الصادقة الجريئة الوفية التي لا تعرف النكوص والفرار، أو التخاذل والتخذيل، ولا تكاد تفرق بين مداد أقلامها ودماء شهدائها، فقد تعلمنا في سيرة أبي الأنبياء هذا الدعاء الذي يعلمنا أنه لا تكون ألسنتنا وأقلامنا صادقة إلا حين يشهد لها وطنها بذلك، (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).
*كاتب إماراتي