الحديث عن الإنسان الجديد ليس جديداً، ويتداول التحول الداخلي العميق للإنسان في تفاعله مع التكنولوجيا في الطب والفلسفة والأدب والفنون، ولدينا على سبيل المثال روايتا «كونستانس جورجيو» المعروفة بعنوان «الساعة الخامسة والعشرون» وجورج أورويل «1984» اللذان يقدمان على نحو بديع ومؤثر كيف تعيد الآلة تشكيل الإنسان بقدر ما يشكلها، والفكرة منطقية وواضحة، فالإنسان يبدع الأدوات محاكياً ذاته، ثم يدخل في متوالية معقدة ومتبادلة في تطوير الذات والآلة.
كان معتقداً في بداية التواصل الشبكي أن في مقدور الإنسان أن يخفي هويته، ومن الفكاهات الساخرة المتداولة أن كلبين يتواصلان عبر الشبكة يقول أحدهما للآخر لا أحد في الشبكة يعرف أنك كلب، ومن التطبيقات المستخدمة على نطاق واسع اليوم التأكد من أن المستخدم إنسان وليس روبوتا باختبار بسيط لا يتوقع أن ينجح فيه غير الإنسان؛ لأنه صار ممكناً للبرامج والروبوتات استخدام الشبكة وبكفاءة عالية لأغراض مختلفة بعضها إيجابي وضروري وبعضها للقرصنة.
لكن الشبكة تقدمت بسرعة وأعادت تنظيم نفسها باتجاه يجعل التخفي صعباً ومكلفاً، بل إن تطبيقات العمل والتسويق والتعليم والتعلم أنشأت قيماً وثقافة في الوضوح والثقة تتفوق على عالم خارج الشبكة، وهنا تشكلت لحظة مهمة ومفصلية، وهي كيف ترشح أو تتسرب قيم وثقافات جديدة للإنسان من الآلة! إذ يحتاج مستخدمو الشبكة للعمل والتسوق والتعليم والدفع أن يكونوا على قدر عالٍ من الصدقية والثقة حتى تنجح السوق الشبكية، وحتى يمكن للفضاء العام أن يعمل لصالح الجميع، وتزيد فرص الناس في استخدام منافع الشبكة ومزاياها بقدر ما يحوزون من ثقة الشبكة والفاعلين فيها.
يتواصل الإنسان اليوم مع الشبكة فرداً، يتحمل وحده مسؤولية ونتائج هذا التواصل، وينشئ وحده مستقلاً عالمه الخاص به أو منصته، لأجل العمل أو التعلم والتعليم أو التسويق، أو التأثير في أفكار ومصالح لتعمل في اتجاه يرغب فيه أو ليغير اتجاهات غير مرغوبة، أو للتواصل الشخصي والاجتماعي، أو الترفيه وتمضية الوقت، أو تدبير حياته اليومية في المواصلات وتوصيل الخدمات والسلع وتسديد الفواتير، أو متابعة اجتماعية وصحية لأحد من أفراد أسرته، أو لأجل متابعة وحراسة أعماله وأملاكه، وقل ما شئت من التطبيقات الكثيرة التي يصعب الإحاطة بها، وفي ذلك فإنه يسلك فرداً على النحو الذي يحمي ذاته ومصالحه وينشئ علاقاته مع العالم المحيط به، وفي ذلك يتحول الفرد إلى ضامن للقانون والقيم والأخلاق؛ لأنه في حاجته إلى ثقة الفضاء الذي يعمل فيه محتاج أيضاً لأجل اكتساب هذه الثقة إلى الالتزام بالقوانين والقيم والأخلاق المنظمة للعمل والمصالح والأهداف العامة للمجتمعات والعقد الاجتماعي.
الشبكة تحول الإنسان الفرد إلى عالم مستقل، بقدر ما يعمل لنفسه وبنفسه ويدير مصالحه وعلاقاته، فإنه أيضاً مسؤول عن استقرار هذا الفضاء وبقائه يعمل على أسس سليمة وملائمة، وكما أنشأت الحضارة في عصورها السابقة قيماً لحماية وتعزيز المصالح، مثل الشجاعة والكرم والخدمة العامة والتطوع، والتي كانت أساس التقدم الفردي والجماعي، فإن الشبكة تجعل الثقة أساساً للتقدم الفردي والجماعي أيضاً، وبالطبع فإن الثقة ليست قيمة جديدة، ولن تتحول الشجاعة والخدمة إلى قيم آفلة، ولكن القيم تتعزز وتنمو وتسود في إيقاع ملموس وواضح للتفاعل بين سعي الإنسان لتحسين بقائه وبحثه وتأمله لتكريس هذه القيم بأقل جهد وتكلفة.
وهناك ردود وأدلة صحيحة مخالفة لهذه المقولة، فالفضاء الشبكي مليء بالفوضى والعبث والقرصنة، لكن المحصلة النهائية التي تؤشر إليها الشبكية تؤكد أن العالم يسير في سرعة ووضوح باتجاه إعادة صياغة العالم الحاضر ليكون ملائما للشبكية بكل ما يصحب ذلك من تضحيات وآلام، وكما أننا لم نتوقف عن استخدام السيارات بسبب الحوادث والخسائر الناتجة عن استخدامها فلا يظن أن العالم سوف يتخلى عن الشبكية لأجل آثارها الجانبية.
*كاتب وباحث أردني