لا يكاد يختلف أحد أن معاهدة السلام الإماراتية- الإسرائيلية تمثل تحولاً تاريخياً في منطقة الشرق الأوسط. وبالمثل لا يكاد يختلف أحد من صانعي السياسات ودارسي العلاقات الدولية حول العالم أن هذه المعاهدة الفارقة تفتح الباب أمام تحولات لاحقة عميقة الأثر وعظيمة الأهمية على مستوى الجغرافيا السياسية والاقتصاد والمعرفة والاجتماع السياسي في تلك المنطقة التي لا تزال للأسف، أيها القارئ الكريم، عاجزة عن التحرر من عبء ميراث سلبي وشديد التجذر من العداوات والثارات التاريخية، التي جعلت من الشرق الأوسط حاضراً في المخيلة العالمية باعتباره عنواناً للتطرف والإرهاب والحروب اللانهائية.
نسير مع القارئ الكريم لسبر أغوار منظور ما بعد توقيع اتفاقية السلام وانعكاساتها بدلاً من الانغماس في حيثيات الإعلان عنها.
تمثل معاهدة السلام الإماراتية - الإسرائيلية، في أحد أهم أبعادها، تحدياً حضارياً تطرحه الإمارات بقوة وشجاعة في مواجهة كل هذا الميراث السلبي من الصراعات التي لم يعد لها مكان في معادلات علاقات القوى الكبرى والمتقدمة ببعضها بعضاً مهما اشتدت خلافاتها أو تعاظمت قوتها. تحدياً يراهن أن قبول الآخر، وتعزيز الاعتماد المتبادل، وبناء الشراكات يمكن أن يتجاوز العداوات والهواجس، ويفتح الباب أمام أفق من الأمن والسلام والتعايش المشترك الإيجابي بأكثر مما يحفز على نفي الآخر ورفضه.
هكذا نشأت الإمارات، وهكذا تطورت حتى صارت قبلة للكثيرين من كل مكان في العالم، ممن يحلمون بحياة إنسانية كريمة وحديثة وآمنة، في ظل عقد اجتماعي يربط كل من يقطن هذا الوطن برباط وثيق ينسجه الالتزام بالإنجاز المتراكم والتطوير المستدام للذات الفردية والجماعية، والمنفعة المشتركة للجميع.
ولعل القارئ الكريم، يتساءل هنا كيف يمكن لمثل هذه المعاهدة، أن تفتح المجال أمام هذا التحول التاريخي غير المسبوق؟ بوادر ذلك التحول، وخلافاً لدعاوى المزايدين من أصحاب المصلحة في استدامة ميراث الحرب والدم، كان أحد العناوين الرئيسة لقبول الإمارات بتوقيع هذه المعاهدة هو حماية ما بقي من الحقوق الفلسطينية التي احترف المتاجرون بالقضية الفلسطينية إهدارها الواحد تلو الآخر، من خلال شعارات مقاومة لا تمتلك من أدوات الفعل سوى الصراخ خلف الميكروفونات والشاشات دون تقديم سبيل أو نهج واقعي يُمكِن الشعب الفلسطيني من تأسيس دولته، أو حتى وقف التآكل المتواصل في مقومات وجودها.
معاهدة السلام، تساهم بدورها في ممارسة سياسية ودبلوماسية تساهم بدورها في دحض الحجة الإسرائيلية لمواصلة احتلال الأراضي الفلسطينية، ألا وهي أنها تقبع في منطقة معادية رافضة لوجودها. وإذا استقر السلام انتفت هذه الحجة الإسرائيلية. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، حيث إن تنامي المنافع المشتركة وترسخها سيخلق في العقل الإسرائيلي إدراكاً بأنه لا معنى لمواصلة سياسة احتلال غير ذات جدوى ومولدة للتهديدات وفوق كل ذلك تحرمها من مكاسب كبيرة يمكنها تحقيقها من القبول بسلام عادل وشامل.
إن مجرد الإعلان عن المعاهدة، وحتى قبل الوصول إلى توقيعها قد دفع بدوره أن يشاهد القارئ الكريم عودة الحراك داخل القضية الفلسطينية واستقطابها للاهتمام من جديد بعد سلسلة مستمرة من الصراعات في الشرق الأوسط هذه الصراعات التي تغذيها قوى إقليمية مثل تركيا وإيران ناهيك عن جماعات الإسلام السياسي وأذرعها الإرهابية التي جعلت من القضية الفلسطينية وقوداً.. جميع ما تقدم وغيره خلق في هذه المنطقة ملفات تُزاحم القضية الفلسطينية، وتهدد الأمن العربي، ناهيك عن الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني، والذي يعد مشكلة بحق، فجاء الإعلان مجرد الإعلان عن المعاهدة لنرى تواصل بين الفصائل الفلسطينية ولا سيما «منظمة التحرير» و«حماس»، حتى بات الأمر محيراً أمام المراقب كيف لا يجتمع هؤلاء على مصلحة الشعب الفلسطيني والمضي نحو تحقيق أماله بدلاً من المزايدات التي طال أمدها دون نفع يذكر حتى بات البعض أداة لتحقيق مصالح قوى أخرى.
في ظل العلاقات الدولية وصراع النظريات بين النظرية الواقعية والمثالية وغيرها، فإنه من المهم النظر إلى أن الفواعل في العلاقات الدولية باتت جزءاً في غاية الأهمية، تسحب البساط في بعض الجوانب عن القوة الخشنة، لتأتي القوة الناعمة من حيث الشركات العابرة للقارات والجانب الاقتصادي، ليلعب دوره في محركات السياسة الخارجية للدول وتعاطيها مع بيئتها الإقليمية والدولية.
من هذا المنطلق فإن النظرة الاستشرافية لهذه المعاهدة تشير إلى أن وجود العلاقات الاقتصادية وفتح مجالات التعاون في الجوانب العلمية والصحية والتكنولوجيا سيسهم- وبلا شك- في فتح مجالات كبيرة في إعادة قراءة الواقع وتخلصه من شوائب النظرة النمطية العدائية التي ستجعل من فواعل العلاقات الدولية في شقها الناعم جانباً مهماً في التعاطي الإسرائيلي مع القضية الفلسطينية، بدلاً من الاستمرار في قطيعة تتآكل معها -كما كان في السابق-الأراضي الفلسطينية خدمةً للمزايدين عليها سياسياً. فهل من مدكر؟
*كاتب إماراتي