لا يزال الفيروس الشائك (Covid 19) يفاجئنا باستمرار، سواء من حيث أعراضه أو فترة حضانته، أو مصدره، أو حتى نقاط استهدافه، ففي حين يعتقد أنه يستهدف الرئة، بات واضحاً أنه لا يستثني شيئاً في الوجود ولا يتوقف عند أجهزة الجسم الحيوية، فلا تزال تستمر تداعيات جائحة كورونا في حركتها مداً وجزراً، مطوقةً أوسع قدر لم يتوقع الإنسان التأثير به، ليطال ملفات الفلسفة وفحوى التنظير الذي توجت الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والدولية العريقة بمضامينه، ونادت بتلك الفلسفات أبرز المنابر الإعلامية، التي يمتطي صهوتها أمهر المحللين السياسيين، فكيف أثرت جائحة كورونا (Covid 19) على مجالات وإنجازات البشرية الفكرية؟ وهل لازالت تصلح كافة السيناريوهات المطروحة؟
فلنتمعن – على سبيل المثال لا الحصر – المستقبل من منظور الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما، إذ ينتهي التاريخ، وتندثر التراكمات والأيديولوجيات المثقلة على كتفيه، ويدخل الإنسان مستقبله المرتقب، مترغداً في كنف الديمقراطية الليبرالية بخطوة لا رجعة عنها، باعتبارها حالة «النضج» الأخيرة للفكر الإنساني، فالديمقراطية الليبرالية مرآة، انعكاسها الحقيقي ومنتهى التطور الإيديولوجي للإنسانية، وآخر حلقة في مسلسل الحكم الإنساني، وبمعنى آخر هي «نهاية التاريخ»، لنجد أن الأنظمة المتفوقة في تميزها، والتي كانت مرجعاً مأمولاً وموثوقاً لإجراء ثورة في المجالات الصناعية والطبية، تتصدر أولى الدول التي آست من قسوة الجائحة، وتأزم إدارتها خلالها.
وصحيح أن تنظير فوكوياما استند إلى ما حققت الأنظمة الليبرالية مثل سويسرا، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، من تلاشي للتحديات وتراجع حالات المظالم، والمشاكل الاجتماعية، ولكن مع مقارنة ما خلصت له الأيديولوجية «الفوكويامية» بـ«نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، والظرف الذي يمر به العالم اليوم، فإن هناك حقيقة وجدت منذ زمن بعيد، تمر بها المجتمعات الإنسانية تباعاً، وتخلص للبناء على الفلسفات والأفكار والإيديولوجيات ذات العيار الثقيل، وبخاصة حينما تصدر من أعلام بارزة، وتحصد توافقاً وتأييداً فكرياً ضخماً، وبعد زمن تتحول تلك الأفكار لمنهجية في التحليل والتفسير، وأداة «لا تقبل» التشكيك لإثباتها جدارتها، ومع هذه التحديات والتحولات أصبح الأجدر بالإنسان للتعامل مع كافة الأفكار التي اعتبرها من المسلمات، بمفاد المقولة: «كذب المنجمون ولو صدقوا»، ليس من باب التهوين أو الاستخفاف أو الإنكار، ولكن لكل فعل رد فعل، ولدغة جائحة «كورونا» لا بد من مقابلتها بمنهجية جديدة في التعاطي مع المسلمات، ونتاج الأفكار المتراكمة، ومصاحبة الاستشراف بتقدير الاحتمالات، مما يؤسس لعقلية جديدة حاملة لمسؤولية الواقع، بدلاً من الانكماش على جمود يعلوه بيت العنكبوت.
الانطلاق نحو استشراف جديد ضرورة، رغم أن مجرد الفكرة بإقامة الحداد على الفلسفات القديمة يعتبر أمراً صادماً، وبخاصة أنها ثمار تسخير حياة كاملة، واستلهام من أنضج العقول المتلاحقة، فهل ستظل تذكر تنظيرات «أوسفالد شبينغل» عن خسوف الحضارات، وما يرى «ميشيل فوكو» عن نظريته «موت الإنسان»، أو النظريات الأخرى مثل «نهاية العمل» لجيرمي ريفكين، أو «نهاية الواقع»، لجان بودريار، أم أن كل هذه التنظيرات والفلسفات ستمشي برغبة تطويع الظروف، وتناغم المراجعات الفكرية باعتبارها «عين الواقع»؟
التراجع الخجول لأعلام من الفلاسفة والمفكرين وحتى المحللين السياسيين، ونحن بذاتنا في التعاطي مع تلك الثمار والأيديولوجيات الزاخرة بالثقافة والتراكمات، لا يعد خطأً ولا يصلح أن يقابل بالصمت، فلكل منا على الصعيد الشخصي حتى وجهات نظر ومبادئ مرنة، تتطور باستمرار، إذا ما كانت ملتزمة بطبيعته الفطرية «السليمة» المتعطشة للمعرفة، وهذا ما سيؤول عليه مستقبل البشرية «الفكري» القادم.
فـ«كورونا» هو فيصل حازم لم يعد يسمح بتصاعد نجومية الشمولية كما كانت عليه، بل أنه أزاح الستار عن نقاط الضعف، مضاعفاً من إلزامية التطور والنهوض.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة