التأويل اشتقاقاً هو من فعل «أوّلَ»؛ أي عاد إلى المصدر الأول، بمعنى العودة من الفروع إلى الجذور، ومن الأغصان إلى الجذوع، وبلغة التأويل: الذهاب من الظاهر إلى الباطن، ومن الخارج إلى الداخل، ومن المكان إلى الزمان، ومن الحرف إلى الروح، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن الحقيقة إلى المجاز.
والسؤال هو: أين الأصل؟ أهو في الذهن أم في الواقع أم في الشعور؟ وهل هو، بتعبير القدماء، في عالم الأذهان أم في عالم الأعيان أم في النفس؟ وبتعبير المحدثين؛ هل هو في العقل أم في العالم أم في التجربة الإنسانية؟
والتأويل عادةً ما يكون لنص، والنص اشتقاقاً هو خروج وبروز وظهور، كما ينص البعير أو الناقة، أي يقوم بإظهار رقبته وإبراز رأسه، فالنص بهذا المعنى تعبير عن شيء وإظهار لحقيقة وإبراز لمعنى، النص مدلول له دلالة، أي علامة لها معنى.
ولما كان المدلول في الطبيعة، فإن التأويل قد يتجاوز النص باعتباره علامة إلى جميع أنواع العلامات الاجتماعية والطبيعية، فالسواد علامة الحداد، والبياض علامة الإيمان، والإشارة الخضراء للعبور، والحمراء للتوقف.. وفي الطبيعة آيات أي علامات دالة، والآية نص وعلامة في آن واحد، وكما قال الشاعر لبيد بن ربيعة: «وفي كل شيء له آية// تدل على أنه واحد».
وهناك فرق بين التفسير والتأويل؛ فالتفسير هو مجرد إخراج النص من حيز العبارة إلى حيز اللغة والإعراب، أي إبراز النص إلى الخارج، في حين أن التأويل هو إدخال النص إلى الداخل، إلى أعماق النفس، والتفسير موضوع «علم التفسير» وعلم أصول الفقه عن طريق اللغة العربية وأسباب النزول.. بينما هناك التأويل في علم أصول الدين عند المعتزلة، وعلوم الحكمة، عند الفلاسفة وعلوم التأويل عند الصوفية، التفسير أقرب إلى التنزيل، أي النزول من النص إلى العالم، بينما التأويل صعود من العالم إلى النص، التفسير لأهل الظاهر (المؤرخون والفقهاء والنحاة)، والتأويل لأهل الباطن (الصوفية).
والنص متعدد الأنواع؛ فهناك النص الديني الذي يتضمن قياس الغائب على الشاهد (في مستوى التصورات)، ومعرفة بالأمر على مستوى الفعل والتحقيق، الأول عقيدة، والثاني شريعة.
وهناك النص الأدبي، القريب من النص الديني على مستوى الصورة والخيال، والغاية منه ليست المعرفة عند المتلقي بل التعبير عند الأديب أو الفنان، وهو لا يتطلب فعلاً، كما هو الحال في النص الديني، بل يهدف إلى التذوق الجمالي، أو متعة الذهن في الأدب، ومتعة الأذن في الموسيقى، ومتعة العين في الفنون التشكيلية، ليس فيه مقياس للخطأ والصواب إلا الصدق في التعبير وجمالياته، وليس له صدق نظري أو عملي، بل له القدرة على التأثير الجمالي في النفس.
وهناك النص القانوني التشريعي، الذي يشارك النص الديني ليس في الجانب المعرفي بل الجانب العملي الأمري، فليس الهدف من النص القانوني المعرفة التي هي موضوع نظرية القانون أو فلسفة القانون، بل الأمر والطاعة والتنفيذ، وإلا أدى العصيان إلى العقوبة في الدنيا دون الآخرة.
وهناك النص التاريخي، أي سجل الأحداث الماضية، والهدف منه المعرفة الخالصة، وهو خبر مدون، يقوم مقام الرواية الشفاهية التي يصيبها التمدد والانكماش عبر الأجيال وزيادة الخيال فيها من جيل إلى جيل، وقد يقع المؤرخ في التدوين أيضاً، وتخونه ذاكرته إذا كان شاهد عيان، فيلجأ إلى الخيال في وصف الأحداث.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة