ليس من المبالغة القول إن واحدة من أكبر نكبات الفلسطينيين كانت، وما زالت، غياب قيادة فلسطينية بمستوى الحدث وبحجم القضية. عانى الشعب الفلسطيني طويلاً من الاحتلال الإسرائيلي، ومن انحياز القوى العالمية لإسرائيل، لكنه ظُلم أكثر لأن من مثّل قضيته المحقة، منذ البدايات، كانت قيادات فاقدة للحكمة والحنكة والمعرفة السياسية، ودائماً في الاتجاه الخطأ، ومع الموقف المناقض للمنطق والمعرفة والواقعية. وما تصريحات بعض قادتها ضد قرار دولة الإمارات العربية المتحدة بعقد معاهدة السلام مع إسرائيل، وهو قرار سيادي متكامل الأركان، إلا دليل جديد على نهج لم يتغير لدى من جاءت بهم الأقدار لقيادة الشأن الفلسطيني، من «فتح» أو من «حماس»، لا فرق! الإمارات ومنذ اللحظة الأولى للإعلان عن هذه الاتفاقية وضعت – وهي غير مضطرة – المصلحة الفلسطينية في اهتمامها. الإماراتيون ليسوا بحاجة لشرح موقفهم، أو أسباب قرارهم السيادي الذي أتى – بكل تأكيد – بعد دراسة وبحث لكل أبعاد قرار جريء مثل قرار تدشين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وبأبسط الحسابات السياسية، هذه الخطوة إنْ لم تنفع الفلسطينيين (وهي بالتأكيد ستنفعهم)، فإنها لن تضرهم بشيء. العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، أو غيرها، لا تعني الضرر بالفلسطينيين، أو بقضيتهم التي كانت، وما زالت، تعيش في وجدان أغلب العرب ومنهم، بالتأكيد، الإماراتيون.
نعود ونكرر: إن الخطاب الفلسطيني الرسمي يثبت، من جديد، سذاجته في التعاطي مع الأحداث وفهم التحولات العالمية في المصالح والمخاطر والرؤى، ناهيك عن إدراكه لتوجه أغلب دول العالم نحو المستقبل بعقل منفتح، واعٍ بالفرص والمخاوف. للأسف، من جديد، قادة القضية الفلسطينية، كما هي القصة منذ البدايات، ينقصهم إدراك الواقعية السياسية ومفهوم العمل السياسي وآلية خطاب الرأي العام، عربياً وعالمياً. ولهذا كانت أغلب القرارات الفلسطينية الرسمية وليدة انفعال سريع، أو جهل بما يدور في المحيط القريب والبعيد، أو ثقة بنصيحة من لا يملك سوى المواقف الغوغائية والمزايدات الكلامية والرقص على جراح الفلسطينيين. خذ مثلاً الحسابات الخاطئة، بل القاتلة، لمفتي القدس، في بدايات المأساة، الحاج أمين الحسيني، حينما رمى نفسه، وقضيته معه، في أحضان الفاشية البغيضة، مع هتلر وموسيليني، ليقدم للمحتل حجة جديدة يستغلها ضد الفلسطينيين ويبرر بها الاحتلال. كثيراً ما تجنح القيادة الفلسطينية، «فتحاوية» كانت أو «حمساوية»، إلى خطاب شعبوي غوغائي، بشقيه القومي والإسلاموي، والخاسر الأكبر يكون دائماً القضية الفلسطينية ذاتها. اقرأ تاريخ تلك القيادات وسلوكها تجاه حروب وصراعات إقليمية أقحموا أنفسهم في أغلبها (إن لم يكن لهم دور فاعل في إشعالها)، من بيروت إلى الكويت! كم مرة نُصحت القيادات الفلسطينية بضرورة النأي بالنفس والتزام الحياد الكامل في الخلافات العربية العربية؟ وكم تضررت القضية الفلسطينية بانحياز الراحل ياسر عرفات لحماقات قادة دمروا بلدانهم بقرارتهم المتعجرفة الجاهلة، كما فعل الراحل صدام حسين في غزوه الكارثي للكويت؟ وكيف لي أو لك أن تقنع كويتياً أن ينسى ما حدث بسبب الموقف المتهور للقيادة الفلسطينية وقت الغزو، وذاكرته لا تزال حبلى بمشاهد الغزو العراقي وخطابات ياسر عرفات، وتصفيق بعض الغوغاء في غزة أو رام الله المؤيدة لصدام حسين؟ ومع ذلك – للأسف - ما زال ذات النهج مستمراً إلى اليوم! فها هي القضية تدفع اليوم ثمناً باهظاً لتحالف (حماس) مع إيران وبكاء إسماعيل هنية على مقتل قاسم سليماني الذي مات ويده ملطخة بدماء الآلاف من العرب الأبرياء؟ وكيف لا يتفهم كثير من إخوتنا الفلسطينيين حجم الغضب عند السعوديين والإماراتيين وهم يرون قادة «حماس» يرسلون مستشاريهم العسكريين لزعيم حركة عنصرية إرهابية متطرفة، «الحوثي»، في اليمن ويتبادلون معه التهاني وهو يواصل توجيه صواريخه الإيرانية للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويهدد كل يوم بإطلاق المزيد من الصواريخ نحو الرياض وأبها ودبي وأبوظبي؟ ثم يأتيك الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، غاضباً من الإمارات، مهدداً بسحب سفيره من أبوظبي، متناسياً دموعه التي ذرفها في مراسم تشييع شمعون بيريز، أو قبلاته الحنونة لتسيبي ليفني، دون أدنى احترام لمشاعر الملايين من أبناء شعبه، ممن هجرهم الاحتلال وأذلهم الحصار؟ أم أن تلك، حسب فهمه، «سياسة» وما يقرره غيره لأوطانهم «خيانة»؟
القضية الفلسطينية، اليوم، بأمس الحاجة لقيادة جديدة، تجيد قراءة الواقع السياسي، وتفهم لغة وأدوات النضال السلمي، وتدرك بعد عقود من الهزائم المتراكمة، أن العنتريات والمزايدات لن تسترد شبراً من أرضها المحتلة. وحتماً في صفوف الشباب الفلسطيني المئات من أولئك الذين يفهمون لغة العصر ومنطق الواقع وأدوات المطالبة بالحقوق، خلافاً لأولئك القابعين في رام الله أو غزة، ممن أدمنوا الجهل والفساد ونكران الجميل!