سوف تكون أقل التحولات أهمية في العملية التعليمية هي إدارتها وتنظيمها من خلال الشبكة (من بعد) لكن التعليم يشهد (وسوف يشهد) ثورةً كبرى تغير في محتواه وغاياته ومعانيه وأدواته ومؤسساته والمهن والأعمال المرتبطة، به كما إدارته وتنظيمه. ولن يكون التنظيم الشبكي للعمليات التعليمية سوى حلقة بسيطة في التحول لن يتذكرها غير جيلنا الذي شهد هذا الانتقال. فالتعليم في روايته الأولى المنشئة كان تقديم المعارف والقيم الأساسية للأطفال في مرحلة لا يعملون فيها، ثم ينتقلون للعمل والتدريب مع عائلاتهم أو في محيطهم الذي يعيشون فيه في المهن والقطاعات السائدة، ولم يكن يواصل التعليم بعد ذلك سوى عدد قليل من المشتغلين بعلوم الدين والفلسفة. ثم تحول التعليم في عصر الصناعة إلى تأهيل مهني للأعمال الجديدة والمعقدة التي يحتاجها السوق، وأصبح للمرة الأولى في مقدور الإنسان أن يعمل ويؤهل نفسه مستقلاً عن عمل أسرته.
هذه الرواية تخضع اليوم لمراجعة استراتيجية، بمعنى التقرير بشأن استمرارها أو الاستغناء عنها أو تغييرها.
إن التحول في قيادة التكنولوجيا والموارد والأسواق من الصناعة إلى المعرفة جعل المنتجات والسلع التي تنتجها المصانع لا تشكل سوى نسبة ضئيلة في قيمتها النهائية بالنسبة لتكنولوجيا وتطبيقات المعرفة المستخدمة فيها. فجهاز الكمبيوتر لا تساوي صناعته أو المواد المستخدمة في صناعته شيئاً من قيمته النهائية بالنسبة للبرامج التي تشغله أو يحتاجها ويريدها المستخدم، وكذا معظم التكنولوجيات والأدوات المستخدمة اليوم في الحياة والعمل والأسواق والمؤسسات. وهكذا فإن رأس المال البشري يكون هو المورد الأكثر أهمية في الحياة والموارد، وبطبيعة الحال تتحول الفلسفات والمؤسسات التعليمية باتجاه إعداد وبناء رأس المال البشري، وسوف يكون أهم ما تقدمه العمليات التعليمية وبخاصة في المرحلة التأسيسية والانتقالية التي نشهدها هو تزويد الإنسان ومنذ مرحلة مبكرة بالاحتياجات المعرفية التي تؤهله ليخوض الحياة والعمل، ليس كصاحب مهنة أو حرفة، وإنما كإنسان بإمكانه الاعتماد على نفسه وتعليمها. بمعنى أن هدف التعليم يتحول إلى أن يكون الإنسان عند بلوغه السادسة عشرة قادراً على أن يواجه الحياة الجديدة ومتطلباتها بمؤهلات ومعارف كافية، والكثير منها لا تعلّمه مدارسنا وجامعاتنا اليوم، وبعضها (إن لم يكن أكثرها) مما تقدمه الجامعات يجب أن يتعلمه في طفولته ونشأته، وبعضها (بل كثير منها) لا حاجة لتعليمه، بل هي متروكة لكل فرد مستقلاً ليختار منها ويعلّم نفسه ما يشاء.
سوف يكون الإنسان القادر على العمل والإضافة (رأس المال البشري) هو الإنسان الذي يتمتع بصحة جيدة ويقدر على أن يعمل بنفسه ولنفسه ويداوي نفسه بنفسه ويعلّم نفسه بنفسه. وفي ذلك فإن المدارس سوف تتحول لتعليم الأطفال والناشئة وتزويدهم بالغذاء الجيد والعادات الصحية والقدرة على التفكير والاستماع والتفاعل مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي. ومن أجل ذلك يتوقع أن يبدأ التعليم في سن الرابعة أو الثالثة لضمان التنشئة الصحية والتغذوية في الوقت المناسب، ولتزويد الأطفال بمعارف أكثر تقدماً، وهي مما يتعلمه الناس في المرحلة الجامعية مثل الزراعة والغذاء والدواء والطب والفلسفة (المعرفة المؤسسة) والموسيقى والفنون والرياضة والسلوك الاجتماعي والصحي.. بمعنى أن الطالب سوف يتلقى مع بلوغه السادسة عشرة ما يتلقاه اليوم خريج الجامعة. وفي الوقت نفسه فإن كثيراً من المعارف والمجالات التي تقدم في المدارس يجب أن تؤجل لتكون اختيارية في المرحلة الجامعية التي سوف تبدأ في سن السادسة عشرة، وسوف تكون الجامعات بيوت علم وخبرة يبدأ الطالب بها بما يبدأ به اليوم طلبة الماجستير والدكتوراه. وبالطبع سيكون هناك خاسرون ورابحون جدد، وستتقدم فئات جديدة وتنسحب أخرى.
*كاتب أردني