عندما تجلس مسترخياً تتابع نشرات الأخبار من المحطات العالمية، معتقداً أنها ذات مصداقية حقيقية، وإنْ تابعت بعض مواقع الإعلام الحديث، كما يُسمى، وفي ظنك أنها صادقة باحثة عن الحقيقة، راجعْ معتقداتك. فجلّ أجهزة الإعلام تستقي مواردها المالية من جهات تفرض عليها سياستها التحريرية، وميزانيات الإعلام مصادرها، إما دول أو أحزاب، وتدخل كذلك شركات الدعاية والرعاية في هذا المجال. فلا تعتقد لحظة أن جهازاً إعلاميا سيتحرر من ذلك، ولو أعلن أن ميزانيته مصدرها الضرائب العامة، كما تروج بعض الأجهزة العالمية.
الإعلام هو صناعة محترفة لتكوين الرأي العام على مستوى الدول أو العالم، يتم استثماره بطرق شتى من قبل الدول، أو الجماعات الفكرية والأحزاب، لتكوين قاعدة جماهيرية حول قضية ما. وعندما ننظر للإعلام من هذه الزاوية، نستطيع أن نفهم ما الذي يجري في العالم من حولنا. وبلا شك، فإن نسبة ابتعاد أو اقتراب الإعلام من الحقيقية، تمثل نقطة جوهرية في المصداقية الإعلامية، لذلك تنقسم أجهزة الإعلام إلى أصناف، أهمها:
إعلام الحقيقية المطلقة، وذلك عندما تقوم أجهزة الإعلام بنشر المعلومات ذات المصداقية العالية، كما هي، سواء تناسبت هذه الحقائق مع مصدر الميزانية، أو تعارضت معه، وتنطبق هذه القاعدة على ندرة قليلة من أجهزة الإعلام. ثانياً: إعلام الحقيقة الجزئية، وهي الأجهزة الإعلامية التي تنشر ما يعجبها من الحقائق، وتحذف الجزء الآخر من الحقيقة، فتراها مثلاً تتسابق في نشر التقارير الدولية، التي تشيد بدولة المنشأ مصدر الميزانية، وإن قامت نفس المصادر بنشر تقارير سلبية تتحفظ عليها، ربما كان هذان الصنفان مقبولين، إلى حد ما، لدى المتابع المتأمل، بيد أن الصنف الثالث يدخل في موقع التعجب، وهي أجهزة الإعلام التي تضخم الأحداث، حتى إنها تصنع من الحبة قبة، كما يقال، إنْ كان الأمر لمصلحتها، وتحول القبة إلى رملة، إنْ كان الأمر لغيرها. إن تضخيم الأحداث الصغيرة بات سياسة رائجة لدى بعض أجهزة الإعلام، حتى ملّها الناس، وعزفوا عن متابعتها. الصنف الأخير، وهو الأخطر من أجهزة الإعلام، هي تلك التي تقلب الحق باطلاً، جهاراً نهاراً، فلا تتردد في نشر الأكاذيب والإشاعات وتحويلها، مع بعض الدراما، إلى حقائق قد يصدقها من كان عقله في إجازة.
نحن نعيش في زمن تعددت فيه مصادر الحصول على المعلومات، وتزايدت فيه أعداد المتعلمين الواعين لمجريات الأحداث، ولذلك، فإن أجهزة الإعلام مطالبة باحترام هذا التغير في المناخ العام، قبل أن يهجرها البشر. وهنا مكمن الخطر، فإنْ فقد الإنسان مصداقية إعلامه الوطني، ربما يلجأ إلى مصادر أخرى، وعندها تقع الطامة الكبرى، فيصبح هذا الإنسان معرضاً للكثير من الفيروسات التي تحوله مع الزمن إلى إنسان ممسوخ في هويته، مُشكك في ولائه وانتمائه، وهذا ما رأيناه من بعض أهل الفكر عندما يقتنع بأن يكون معولَ هدمٍ لوطنه، مفسداً لمجتمعه، وهو يزعم أنه من المصلحين. الدول العربية بحاجة لمراجعة أجندتها الإعلامية، كي يتمكن الإعلام من القيام بدوره الحضاري.