كثيرة هي تلك الأسئلة والاستفهامات المتعلقة بأحكام الدين وتعاليمه التي رافقت جائحة «كورونا» منذ نشأتها، وجرياً على الطبيعة التي فرضت نفسها في هذا الواقع، وهي التباعد «عن بُعد» انطلق يوم السبت الموافق 18/ 7/ 2020، العرس الفقهي العالمي وملتقى فريد من نوعه في العالم، فتضافرت جهود مؤسستين علميتين كبيرتين، «رابطة العالم الإسلامي» برئاسة معالي الشيخ محمد عبد الكريم العيسى. و«مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي» برئاسة معالي الشيخ عبدالله بن بيه، لتنظيم هذا المؤتمر العالمي تحت عنوان: «فقه الطوارئ معالم فقه ما بعد جائحة كورونا»، فهذا المؤتمر يعد نافذة علمية تُفتح أمام المتشرعة والفقهاء والقانونيين، تجديداً وتعريفاً وتأصيلاً وتنزيلاً وتعليلاً وتطويراً.
فاليوم تقود دولة الإمارات وبجانبها المملكة العربية السعودية من خلال هاتين المؤسستين حركة علمية مشهودة، ويقظة واعية بالواقع وتحولاته وتأثيره على الأحكام الشرعية، والبحث عن الحلول السليمة للإكراهات التي فرضتها علينا هذه الجائحة، وقبل ذلك تحقيق المقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة في الحفاظ على حياة هذا الإنسان وإسعاده وتيسير ممارسة شعائره الدينية.
فإن كان من شكرٍ واجبٍ في هذا المقام، فلقيادتنا الرشيدة، والتنويه بجهودها في الاحتفاء بالعلم والعلماء، والعناية بالخطاب الديني ومستجداته ونوازله، وسبْقها في شتى المجالات التنموية والثقافية والعلمية، فلله الحمد وله الشكر على ما أولى من نعم وأجزل من فضل، وألهم من توفيق، فإذا كان العالم من حولنا مستنفراً للخروج من هذه الأزمة بأقل الأضرار، فإن دولة الإمارات، ولله الحمد، مستمرة في ازدهارها ونهضتها، وتحقيق أرقام قياسية في شتى المجالات الفضائية والصحية والعلمية، وقيادة ركب التطور والتقدم، واستشراف المستقبل المتسارع، فجزيل الشكر والدعاء لسيدي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، وأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظهم الله ووفقهم لما فيه الخير.
إن هذا الملتقى مَجمَع لكبار العلماء والفقهاء على مستوى العالم الإسلامي، ليتدارسوا التحديات والإشكاليات والأسئلة التي نشأت مع هذا الوباء الجارف، وقد شملت آثار هذه الجائحة شتى مناحي الحياة ومجالاتها، فلم يكن أحد من الناس يتوقع يوماً أن يصلي صلاة العيد في بيته، ولا أن لا يقدر على الصلاة في المسجد جماعة لهذه المدة الطويلة، ولا أن يرى الكعبة بيت الله الحرام دون آلاف الطائفين والعاكفين والركع السجود من الحجاج والمعتمرين، ولكن «كورونا» أحدثت للناس ما لم يكن في الحسبان، فواجهتهم أحداثٌ في شؤون دينهم لم يكن لهم بها عهد قبل ذلك، فكان هذا المؤتمر مناسبة ضرورية لتدارس الحلول والخروج بتوصيات ومعالم ومناهج تقدم حلولاً علمية وشرعية يسترشد بها المفتون والمختصون في الشأن الديني، وتُطور الخطاب الديني في المؤسسات الدينية والإفتائية.
ويمكن تأكيد أن هذه الجائحة فرصة ومنحة، وكم من محن في قلبها منح؟ فهي الدافع لنا اليوم لفتح خزائن الفقه، وإزاحة الغطاء عن كنوزه، والبحث عن دفائنه الحضارية، والتعمق في أبعاده الإنسانية، واستكناه قيمه الحاكمة، وطالما نبهنا الفقهاء لهذا النهج في تسمية مؤلفاتهم الفقهية بمثل هذه الأسماء: «كنز الدقائق» و«الدر المختار» «وعقود الجواهر الثمينة» و«الدر الثمين»، فليس بين الفقيه والبحث عن هذه الكنوز الثمينة التي نحن في حاجتها اليوم، إلا امتلاك الوسائل والأدوات العلمية والمعرفية والشرعية والمنهجية، والتضلع من معرفة الواقع وإدراك الوقائع، ففقهنا ففيه من الثراء والغناء فوق ما يتصوره متصور أو يحدس به خيال. وهذه سمة فقهائنا الذين كانوا في الغالب يحددون المعالم الكبرى لأي مسألة وحدودها الممكنة، فقد قرروا في أبواب الحج مثلاً قواعد عظمى تُسهل علينا الاجتهاد اليوم منها: أن الحج مبناه على التوسعة والتخفيف، وأكدوا أن من موانع الحج المرض، وركزوا في تعريف شرط الاستطاعة على الأمن على النفس والمال.
وغالب تحدياتنا الفقهية مع هذه الجائحة ظهرت جلياً مع الشعائر الجماعية، وكما هو مقرر لدى الفقهاء أن الأعذارَ فِي تَركِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ خَفِيفَةٌ، لِأَنَّ الْجَمَاعَاتِ سُنَّةٌ، وهذا أحد المداخل المهمة التي ينبغي التركيز عليه في معالم فقه ما بعد «كورونا».
فهذا المؤتمر عصف ذهني فقهي عالمي شارك فيه خيرة العقول، وباركه كبار علماء العالم الإسلامي، ففقه ما بعد «كورونا» لا يعقل أن يكون نسخة متكررة كسابقتها، ولعل من أهم معالم هذا الفقه الحفاظ على حياة الناس وتحقيق كرامتهم وإسعادهم، ومواكبة واقعهم وإدراكه، وإيجاد الحلول لاحتياجاتهم على منهج التيسير والسماحة والاعتدال، واعتبار الخصوصيات الثقافية وإكراهات الظروف الطارئة، والوعي بمراتب الأحكام، وهذه عقبة أخرى بل هي من أكثر العقبات، التي واجهت الشأن الديني في هذه الجائحة، فكثير من الناس يعتبرون السُنّة فرضاً والمندوب ركناً، فحزنوا وضجروا على ما فاتهم من الفرائض وما هي إلا سُنن، وهم لا يدركون أن حرصهم على المُصَلَّى قد يؤدي لهلاك المصلِّي، نسأل الله الفقه في الدين.
*كاتب إماراتي